هذا العنوان هو خلاصة ما تم الاتفاق عليه في فينّا قبل يومين فقط.. التردد الأمريكي في نجدة الشعب السوري خوفاً من (الإسلام القادم)، والذي بدأ منذ سنوات استحال إلى تراجع واضح، عندما دخل الروس بقوة في الحرب الأهلية السورية لمناصرة بشار الأسد.. ظلت أمريكا في حالة مأزق وتردد خجول حتى جاءها الفرج!! وقد كان هذا الفرج في ضربة داعش لباريس!! انتهزت الفرصة واتفقت على الفور مع الروس على تمرير المطالب الروسية بكامل مصطلحاتها، والتي كانت تتلخص في إنقاذ حكم بشار في سوريا.. طبقاً لهذه الاتفاقية ضمن بشار الأسد البقاء في السلطة لمدة سنتين وسنوات أخرى، قد تبلغ الأربع مرهونة بانتخابات تحت إشراف نظام الأسد!! من أكثر البنود إثارة للسخرية تكوين حكومة (وحده وطنية) وليست انتقالية.. والأغرب من كل هذا إنهم أعطوا للروس أكثر مما كانوا يطلبونه.. فالروس كانوا يطالبون بحكومة انتقالية برئاسة بشار، ولكن الآن طبقاً لاتفاقية فينّا حكومة لم يكن يحلم بها بشار نفسه وهي (حكومة وحده وطنية).. يقتل هذا العدد المهول ثم يسوقون له المعارضة ذليلة لتعترف به رئيساً شرعياً في كل هذه السنوات!! حددوا داعش والنصرة كعدوين ثم تركوا بقية المقاومة للتعريف الأردني.. والأردن مع مصر في الحلف الروسي ومعلوم أن هؤلاء لا يقبلون حتى بالجيش الحر !! نفذوا مطلب بشار بمحاربة (الإرهاب أولاً) وفي هذا تبني لمفهوم النظام !! *** والسؤال الآن هو؟ لماذا باعت أمريكا قضية الجيش الحر؟ السبب بسيط وواضح هو: خوفاً من (الإسلام).. والمسلمين في عرفهم في خانة واحدة إن كانوا متطرفين أو معتدلين.. وللحقيقة خوفهم هذا صحيح وفي محله.. طالما كان الإسلام عدوهم فهم محقون لسبب آخر بسيط، هو أنه قادم في كل الأحوال: بالديمقراطية جاءهم (الإسلام) في الجزائر وتونس ومصر، وبغير الديمقراطية أمامهم الآن بداعش الذي ولد من القاعدة.. ولكن السؤال الأكثر حرجاً هو: هل سيستطيعون ببقاء الأسد في السلطة محاربة التنظيمات الإسلامية المتطرفة وغير المتطرفة طبقاً للتفريق الروسي؟ نعم مؤقتاً.. لأنهم في مدة الست سنوات التي سيحكم فيها النظام السوري.. سيحركون جيوشهم على الأرض لمحاربة داعش.. ولكن هل سحق تنظيم داعش المتطرف- سيزيل العداء الذي ترسخ بين المسلمين وأوربا؟ لا.. داعش لم يكن إلا حلقة في سلسلة طويلة من تقلبات الفقه الإسلامي من معتدل إلى متطرف طبقاً لتقلبات الظروف السياسية التي كان يمر بها المسلمون. من أين جاء داعش؟ لم يكن داعش إلا نتاج (العذاب السني) الذي كان نتيجة للتدخل الأمريكي الأول عند إسقاط صدام حسين.. خرج داعش من بين مطرقة المالكي الشيعي وسندان بشار الأسد العلوي، والسنة أصلاً طائفة معذبة الوجدان بإسرائيل والاستبداد السياسي المحمي من أمريكا وأوربا.. داعش نقلة نوعية لأحد فروع تنظيم القاعدة (فرع الرافدين). *** فعالية داعش على الأرض تعادل في قوتها أضعاف قوة تنظيم القاعدة، بل لا نعرف تنظيماً بهذه القوة ولا مجموعة مسلحة اجتمع عليها العالم بهذه الصورة! أمريكا وأوربا في مأزق حقيقي فهي غير قادرة على تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.. يتباكون عن البعد الأيدلوجي لهذه التنظيمات في إدانة خفية للعقيدة الإسلامية. والسؤال الذي يحاولون الإجابة عليه الآن: كيف يمكن سحب (الحاضن السني) أو على الأقل (القابلية السنية) أو إبعاد (السنة) من تحالف ممكن مع هذه المجموعات المسلحة؟! الإجابة الصحيحة هي: طالما كانت أوربا وأمريكا عاجزة عن مواجهة عجزهم مع إسرائيل ستطور المواجهة مع الإسلام كعقيدة، ثم إذا ضيقوا عليه الخناق سينزلق إلى التطرف. *** تاريخ الصراع يقول: بدأ الرفض الإسلامي للموقف الأوربي الأمريكي ضعيفاً في حرب 1948م على صورة الإخوان المسلمين، وعندما سحقوا هذه الجماعة التي كانت تحمل فقهاً معتدلاً مثل فقه «الهضيمي» في بداية الستينيات، خرج من عمق الظاهرة فقه أشد تطرفاً في أطروحاته مثل فقه «سيد قطب».. وعندما سحقت الأنظمة المستبدة هذه الجماعة بإعدام سيد قطب وإخوانه انتقل الفقه إلى أرض الواقع، وبدأ بالظواهري والإسلامبولي وجرفوا معهم الرئيس المصري السادات.. هذا السحق المتطور من قبل القوى العالمية للمجاهدين في أفغانستان نقل فقه الجهاد نقلة نوعية أخرى من تنظير الظواهري إلى تنظيم القاعدة على يد ابن لادن.. وعندما سحق الأمريكان (القاعدة) وقتلوا ابن لادن وألقوا جثته في البحر، أوغلت السلفية الإسلامية في التطرف وهي الآن على أبواب (داعش) التي أرعبت أوربا وأمريكا.. وعلى يدها تحول تنظيم القاعدة إلى الدولة! في هذا المكان قلت من قبل ما نصه: «صدقوني إن لم يتوقف السحق اليومي للوجدان الديني للعرب والمسلمين بالسلاح الغربي في فلسطينوسورياوالعراق سيصل داعش إلى شوارع لندن- كما ذكر كمرون البريطاني- وسيتطور «التطرف» في نقلات نوعية بدأت الآن بخطى متسارعة!!).. وهاهي المذابح في قلب باريس !! *** أمريكا مندفعة في طريق مسدود ستضطر في النهاية لتختار أحد أمرين: إما محاربة (السنة) في حرب صليبية واضحة أو أن تتورط بدعم جيوش محلية (تزيد الطين بلة) كما حدث في أفغانستانوالعراق ومصر والآن في سوريا. *** لا سبيل لمعالجة التطرف إلا بمعالجة القضية الأساسية وهي وقف النزيف الفلسطيني، ولكن مع الأسف أمريكا وأوربا غير قادرة على مواجهة قدرها، فهي مكتفة بتراكمات تاريخية ولوبيات داخلية، لهذا لم يبق أمامها سوى أن تترك المعارضة السورية تنهار وتتراجع أمام بقاء (الأسد) في الحكم وهي بهذا ستترك داعش لسنوات طويلة!! *** محاربة الطائفة السنية هي محاربة للعقيدة الإسلامية نفسها، وهي غير ممكنة حتى ولو توفرت كل الإمكانات العسكرية.. الإسناد الإسلامي مستمر في التقاطر على داعش والمذاهب الإسلامية بدأت تتلاقى والحواجز الفقهية السياسية بدأت تتكسر! الترجمة الأولى لهذا التجمع الإسلامي بدأت مع عودة العلاقة بين داعش وجبهة النصرة.. أمام ملاحقات طائرات التحالف الأمريكي، لم يعد الخلاف الفقهي قائماً لأنه كان في الأصل أطماعاً سياسية وشخصية لقادة الجهاديين. *** أمريكا مضطرة لتبحث عن حلول في جحر العقارب: مساندتها للشيعة في العراق، والسكوت عنهم في سوريا لن يؤدي إلى حلول، بل ستؤدي إلى تقوية إيران، وسيكون ذلك خصماً على جرحها القديم وهو إسرائيل.. وأمريكا لا تحتمل أي درجة من الإخفاق في قضية أمن إسرائيل؛ قد تتساهل في ذبح أمريكي، ولكن لا تستطيع أن تسكت على مقتل طفل إسرائيلي! هذه الحيرة والمأزق أكبر بكثير من أن تحلها أمريكا ودول الاستبداد الغربي.. ظهر السأم على أمريكا منذ سنتين وهي تعترف بفشل تقدير الموقف، وهي تعلن تكلفة الحرب التي فاقت المليار دولار، وأنها تتحمل مسؤولية 90% من الهجمات. الآن في اتفاقية فينّا الأخيرة اعترفت أمريكا بانسحابها الكامل من قضية الشعب السوري بترك (الأسد) ستة أعوام أخرى ولكن مع الأسف لن تسعفه هذه الخطوة!! *** معلوم للقاصي والداني أن أمريكا لا يحكمها الدراويش والمغامرون، كل شيء محسوب عندهم بدقة إلا (حماقة) حماية أمن إسرائيل، وبسبب هذا الخطأ التاريخي ستظل أمريكا وأوربا تدفع الثمن!!