كما وعدتُ، سيتم التركيز في هذه الحلقة الخامسة والأخيرة على أحداث بنما في سلسلة «الإضاءات» التي عرضنا فيها بعض أهم ما ورد في كتاب جون بيركنز «اعترافات قرصان اقتصادي». والحقيقة أن رواية بيركنز لأحداث بنما ووقائع أخرى كثيرة عاشها وكان جزءً منها، لن يستمتع بها القارئ كما يجب من خلال استعراض سريع لمحتوى الكتاب، فالجوانب الأدبية التي تشمل السرد الروائي للعديد من المواقف الطريفة أو المحزنة واسلوب الكاتب وبصمته الخاصة، تختفي كلها بفعل الاختصار، وهذا ما حاولتُ تجنبه في الحلقتين الثانية والثالثة اللتين خصصتهما للسيرة الذاتية لجون بيركنز ونشأته وتدرجه التعليمي والوظيفي، واستقطابه لوكالة الأمن القومي الأمريكي وانضمامه لفيالق السلام، حتى التحاقه بشركة «مين» MAIN))، وصعوده السريع فيها حتى أصبح «قرصاناً اقتصادياً» كامل الأهلية، يجوب العالم شرقاً وغرباً ممثلاً لتلك الشركة التي تمثل ضلعاً مهماً في مجمل المؤسسة الإمبراطورية الأمريكية، التي تتحكم بمصائر البلدان والشعوب ويسميها هو ب(الكربوقراطية) في إشارة لما يعرف ب«الشركة الأمريكية» أو Corporate Ameri ca، كاصطلاح مجازي يطلق على المنظمة المشتركة للشركات الأمريكية الكبرى. أما قصته مع بنما، فتبدأ عندما استدعاه «برونو» المدير التنفيذي لشركة «مين» ذات مساء، وتحرك خلف مقعده وربت على كتفه وقال له في صوت ناعم «لقد قمت بعمل رائع في - اندونيسيا- ولكي نظهر تقديرنا لك سنمنحك فرصة العمر، شيء يحصل عليه قليل من الرجال حتى في ضعف عمرك»، وكلفه بالقيام برحلة بحثية ومهمة خاصة إلى بنما، فأعد بيركنز نفسه للرحلة بطريقته المعتادة، حيث زار قسم المراجع في مكتبة بوسطن العامة، وعرف من خلال تلك المراجع أن أحد أسباب شعبية عمر توريخوس في أوساط شعبه، هو أنه مدافع حازم عن حق بنما في الاستقلال ومطالبته بالسيطرة على قناة بنما، فبنما كانت جزءً من كولمبيا عندما قرر المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس -الذي أشرف على بناء قناة السويس- بناء قناة عبر برزخ أمريكا الوسطى، ليربط بين المحيطين الأطلسي والهادي. وبداية من عام 1881 قام الفرنسيون بمجهود خارق وواجهوا الكارثة تلو الأخرى حتى عام 1889، عندما انتهى المشروع بكارثة مالية. لكن هذا الفشل الفرنسي ألهم الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت حلماً، ففي الأعوام الأولى من القرن العشرين طالبت الولاياتالمتحدة بتوقيع كولمبيا على معاهدة تحويل البرزخ لإشراف «اتحاد شركات أمريكا الشمالية»، لكن كولمبيا -صاحبة السيادة على بنما- رفضت ذلك. وفي عام 1903 أرسل الرئيس روزفلت أسطول ناشفيل الحربي الذي هبط جنوده هناك وقبضوا على قواد المليشيات المحلية وقتلوهم، وأعلنوا «بنما دولة مستقلة» ونصَّبوا -كعهدهم- حكومة شكلية عميلة، وتم التوقيع على معاهدة القناة الأولى، التي منحت الشرعية لوجود «منطقة أمريكية» -وليس مجرد قاعدة- على جانبي الطريق المائي مستقبلاً، وللتدخل الأمريكي العسكري، ومنحت واشنطن سيطرة فعلية على تلك الدولة المشكلة حديثاً والتي سُميت «مستقلة». تكمن المفارقة -كما يقول بيركنز في أن من وقَّع تلك المعاهدة هما وزير الخارجية الأمريكي والمهندس الفرنسي فيليب بونو فاريللا، الذي كان عضواً في الفريق الأساس إبان المحاولة الفرنسية لشق القناة، لكن هذه المعاهدة لم يوقعها بنمي واحد. ألا يذكِّر هذا الموقف في بعض وجوهه المرء باتفاقية مياه النيل التي وقعها البريطانيون ومصر الخديوية، دون استشارة أي من دول الحوض بما فيها السودان، والتي ترفضها دول المنبع اليوم، وتحوَّلت إلى مشكلة بين دول الحوض إلى يوم الناس هذا. ظلت بنما، المنتزعة من كولمبيا -وتحكم على مدى نصف قرن بواسطة الأقلية المكونة من العائلات الثرية التي تربطها علاقات وثيقة مع واشنطن وتعمل لخدمتها ورعاية مصالحها، وتتبنى نهجاً ديكتاتورياً مهمته الأساسية إجهاض إي حركة شعبية «توحي بالاشتراكية»، ومساعدة شركات التجارة الأمريكية الكبرى مثل «استاندرد اويل للبترول» التي يمتلكها روكفلر، وشركة الفواكه االمتحدة «يونايتد فروت» العائدة لعائلة جورج بوش. ولم تستشعر تلك الحكومات المتعاقبة أنه يمكن «ترويج مصالح الولاياتالمتحدة» بتحسين أوضاع الشعب الذي يعيش في فقر مدقع أو تقديم رعاية لأولئك الذين يعملون كالعبيد لدى شركات الزراعة والاقتصاد الضخمة. كان عمر توريخوس يتمتع بتقدير من الطبقة المتوسطة واحترام الطبقات الفقيرة من شعب بنما، وكان هو نفسه قد نشأ في بلدة ريفية في سانتياجو، وكان والداه يعملان بالتدريس. شق عمر طريقه بنجاح من خلال انضمامه لضباط الحرس الوطني، وهي وحدة بنما العسكرية الرئيسية والمؤسسة التي تمتعت بدعم متزايد من الفقراء خلال الستينيات. فأكسبه اهتمامه بالفقراء والمهمشين سمعة طيبة. كان يسير في شوارعها المكدسة بالأكواخ، ويعقد الاجتماعات في أحيائهم الفقيرة التي لا يجرؤ رجل السياسة على دخولها، ويساعد العاطلين في العثور على عمل، وكثيراً ما تبرع بالأموال القليلة التي يملكها للعائلات المنكوبة بالأمراض والمآسي. وتجاوز حبه للحياة وتعاطفه مع الناس حدود بنما. فاتهم من جانب واشنطن بتحويل بلاده إلى مأوى للفارين من الاضطهاد، إلى بلد يمنح حق اللجوء السياسي للاجئين على جميع أصنافهم، بداية من أشد اليساريين عداوة لبينوشيه في شيلي إلى المليشيات اليمينية المناهضة لكاسترو. كثير من الناس كانوا يرون فيه رسول سلام، وتلك السمعة أكسبته تأييد وتشجيع نصف سكان الكرة الأرضية. وطوَّر سمعته أيضاً كقائد كرس نفسه لحل الخلافات بين الأحزاب المتشاحنة في كثير من دول أمريكا اللاتينية مثل غواتيمالا، السلفادور، نيكاراغوا، كوبا، كولمبيا، بيرو، الأرجنتين، شيلي والارغواي. وقدمت دولته الصغيرة ذات المليوني نسمة نموذجاً للإصلاح الاجتماعي، ومصدراً لإلهام قادة العالم على تنوعهم. ولأول مرة لم تعد بنما لعبة في يد واشنطن أو أي بلد آخر، وبرغم إيمانه بالإصلاح الاجتماعي، لكنه لم يكن مؤيداً للشيوعية على عكس كاسترو، كان عمر توريخوس مُصمماً على كَسب الحرية من الولاياتالمتحدة دون تحالف مع أعدائها. فهو باختصار ضد مبدأ «مونرو» الذي يمنح الحق للولايات المتحدة في التوسع في نصف الكرة الأرضية، ذلك المبدأ الذي أعلنه الرئيس جيمس مونرو، والذي استغله روزفلت لتبرير التدخل الأمريكي في شؤون الدومينكان وفنزويلا وأثناء نزع بنما وفصلها عن كولمبيا - وتلك سابقة (انفصال) على السودانيين أن يتذكروها ويتذكروا دور الولاياتالمتحدة فيها، بعد تعثر فرنسا في إكمال مشروع قناة بنما، مثلما فشلوا -لأسباب مختلفة- في إكمال مشروع قناة جونقلي، فربما يعيد ذلك التاريخ بعض فصوله هنا في بلادنا. اعترض توريخوس كذلك على وجود مدرسة الأمريكتين والقيادة الجنوبية لمركز تدريب عمليات المناطق الحارة التابعة للجيش الأمريكي في بلاده، وكلاهما في منطقة القناة، وطالب بممارسة بنما لحقوقها وسلطتها المطلقة على شعبها وأرضها ومسطحاتها المائية. وبعد وصوله إلى بنما فكر جون بيركنز في موقفه، فقد أرسلوه إلى هناك لإنهاء مفاوضات ما سيصبح أول خطة شاملة للتنمية الحقيقية، خطة تفتح للبنك الدولي وبنك التنمية الأمريكي وهيئة المعونة الأمريكية (USAID) مجالات الاستثمار بمليارات الدولارات في قطاعات الطاقة ووسائل المواصلات والزراعة في هذا البلد الصغير شديد الأهمية. وكان الأمر -كما قال- ينطوي على خدعة، ووسيلة لجعل بنما ترزح تحت الديون وهكذا تعود مرة أخرى لتصبح دُمية في يد الولاياتالمتحدة، فانفجر في داخله، كما عبَّر، شعور بالذنب منطلقاً كالوميض، لكنه كبح جماحه، تحت إغراء أن تلك هي فرصة العمر للثراء والشهرة والنفوذ الأوسع. تفاصيل عديدة ومشوقة رواها بيركنز عن الأيام الأولى التي قضاها في بنما قبل أن يلتقي الجنرال عمر توريخوس ويبدأ معه الحوار والتفاوض، فسأله الجنرال عن آخر رحلاته إلى اندونيسيا وغواتيمالا وإيران. كان مفتوناً بهذه البلدان الثلاثة، لكنه بدا أكثر اهتماماً بشكل شخصي بشاه إيران، وسأله قائلاً: «هل تتصور أنه جزء من خطة خلع والده عن العرش؟» وتحدثا عن ثورة مصدق 1951، وأوضح توريخوس لبيركنز دور المخابرات الأمريكية التي صنَّفت محمد مصدق بأنه شيوعي وساعدت على إعادة الشاه، وتنبأ له بنهاية الشاه برغم قوة وقسوة شرطته السرية (السافاك)، وقال إنه لديه حراس مسلحون، وسأله «هل تعتقد أنهم قادرون على حمايتي إذا أرادت بلادك التخلص مني؟»! المفاوضات بين بيركنز وتوريخوس انتهت إلى الفشل بعد أن أصر الأخير على عدم قبول القروض التي تغرق بلاده في الديون، وأبلغه بأنهم سيستعيدون القناة، وأن أداءهم سيكون نموذجياً، ولابد أن نوضح لهم أننا نهتم بمصالح فقرائنا، ولابد أن ندرأ أي شك في أن هدفنا من كسب استقلالنا لا تمليه علينا روسيا أو الصين أو كوبا، علينا أن نثبت للعالم أن بنما دولة عقلانية، وأننا لن نقف ضد الولاياتالمتحدة، بل نقف في صف حقوق الفقراء، وقال له أخيراً: «قدموا أفضل ما عندكم لشعبي، وسأقدم لكم كل العمل الذي تريدونه».. وعندها قال بيركنز: ماذا بوسعي أن أقول إن كان توريخوس يسعى لدور الشهيد؟! وبهذا لخص الموقف كله باختصار غير مخلٍ، من وجهة نظر «قرصان» حانٍ يعرف ما وراء الأكمة!