كنا نشفق على شعارات السيد الصادق المهدي وهو ينادي بالجهاد المدني، والانتفاضة المحمية أو الانتخابية باعتبارها قلة حيلة.. وكنا نتساءل: ماذا تنفع مثل هذه المحاولات اليائسة والبائسة مع عتاة في تصفية الخصوم.. ولكن يبدو أن حاسة الشم والتنبوء باتجاه الريح كانت متقدمة لدى هذا الزعيم، ولم نكن ندري أن محاولات رمزية في المقاومة قد تقوم مقام ثورة شعبية عارمة. قوة الحيلة مع أعاصير العولمة، أصبحت تضاهي قوة السلاح.. لم يعد هناك ضعفاء.. وهذه الظاهرة بدأت بثورة الحجارة في فلسطين المغلوبة على أمرها، وتمر الآن بثورة الأحذية وهي محاولات رمزية لها ما بعدها. أذكر أن وزيراً مصرياً هو (أحمد ماهر) ضُرب بالحذاء في القدس وهو يصلي تحت حراسة جنود الصهاينة حتى أُغمى عليه، وقد كان احتجاجاً على الكرامة العربية الإسلامية المجروحة. التسابق والهرولة إلى الحضن اليهودي كان باعثاً لغضب المصلين.. وماذا سيفعلون سوى أن يتخذوا هذا الوزير المسكين رهينة ويضربونه بالحذاء !! وماذا كان يملك الشعب العراقي ليسترد به كرامته من الأمريكان سوى حذاء الزبيدي الذي ضرب به الرئيس الأُبكي بوش.. وهناك الزعيم الإيطالي برلسكوني الذي ضُرب بالحذاء حتى أدموا وجنتيه.. ويبدو أن هذه الضربة كانت لها مفعولها فلم يبق طويلاً في الحكم. أما رئيس وزراء الصين السابق رون جيابا فقد أخذ حظه أيضاً عندما ضُرب بالحذاء في بريطانيا وهو يلقي محاضرة في جامعة كمبردج !! ومن مفارقات أثر هذه الثورة الرمزية على أنصار هؤلاء الزعماء أن والدة الزعيم الصيني أُصيبت بنزف في المخ عندما شاهدت ابنها الذي ملأ الآفاق يضرب بالحذاء! ويبقى أن الطالب الذي ألقى الحذاء لم يوصف بالجنون، بل أن المحكمة برأته من تهمة الإخلال بالنظام العام!! وهذا الموقف أصبح دليلاً على أن الحكومات أصبحت تعالج هذه الظاهرة بقدر من العقلانية.. وهذه المعالجة هي نفسها استعانة السيد رئيس الجمهورية في السودان عندما ألقوا عليه الحذاء.. فقد أعلن أنه سيتكلف بعلاج صاحب الحذاء !!. وبعد حادثة السودان بقليل ألقت امرأة بحذائها في وجه مرشح رئاسي كولمبي، وقد كان يمثل حزباً دينياً محافظاًً.. وكما حاول الرئيس السوداني امتصاص الحرج والصدمة يتبنى علاج (المريض) نزل الرئيس الكولمبي من المنصة وهو يبتسم ليناولها حذاءها ثم أرسل إليها قبلة !! وتعرض وزير الطاقة التركي إلى اعتداء جسدي أثناء تشييع أحد الضباط الذين قتلهم الأكراد.. هذه اللكمة تلقاها من مدرس رياضة.. أما الضربة فقد تسببت في كسور في أنفه نقل على أثرها إلى المستشفى.. مثل هذه الأمور كان الشروع فيها منذ سنوات معدودة، مدعاة لقطع الرأس. ولكن مع نسمات العولمة لا يصح إلا الصحيح، التخويف و الاستخفاف لم يعد أمامها مساحة يرتاح عندها الاستبداد السياسي.. تقاصرت المسافات بتكنولوجيا الاتصال ومن آثاره تفكيك وسحق الخصوصيات والقوميات والهيمنة على الشعوب بحجج الشؤون الداخلية. لم يعد هناك مجال لاستبعاد الشعوب بالقهر المادي والثقافي الديني.. أما العولمة فهي في الأصل أن يقاسمك الآخرون خصوصياتك شئت أم أبيت. بالإضافة إلى مغريات الإعانة الدولية والعقوبات الاقتصادية. الملاحظ أن المستبدين بدأوا الانحناء أمام أعاصير العولمة ومن هذه الفجوة يتنفس الضعفاء.. ضاقت الفرص أمام الانقلابات العسكرية واتسعت ساحات الديمقراطية.. ولم يعد الحكم من نصيب المغامرين بل صار حكراً على الأذكياء. استطاع الرئيس الكولمبي كما تقدم أن يمتص الصدمة بذكاء شديد، فلو تمادى فلن ينجو من غيره.. لأن المدد الخارجي يحرض الشعوب على التمرد والحرية. *** والعجب مما كنا نسمعه من أنصار الحكومة في السودان أيام الانتخابات أنهم كانوا يعيبون على أحزاب المعارضة أنهم كانوا ينتظرون مدداً خارجياً، وحكومتهم تتحالف في السر والجهر مع القوى الخارجية. يريدون بذريعة التعامل مع الخارج أن يستضعفوهم، وقد كان هذا مستحيلاًً والانتظار كان طبيعياً لأن المدد الخارجي آت.. آت َ!! ومفاهيم (السيادة) لم تعد كما كانت في الستينيات. والخلاصة ببساطة لابد من إعادة صياغة الأهداف، وقراءة الشعارات القديمة من جديد وتغيير الآليات... ولابد من السؤال: لماذا تستضعفونهم أصلاً وقد ولدتهم أماتهم أحرارا ؟!! وهذا أمر قد سبقنا عليه الخليفة عمر (رضي الله عنه)!!