تجد شخصية الصوفي قبولاً في الذهن السوداني، مهما بدا تناقضها الظاهري مع النص، لأن الشخصية الصوفية «هي بنت عصر ثقافة التمازج والتلاقح». ولا يُرَى للصوفي تناقض، إلا من تخندق منذ البدء ضده، ونظر إليه بعين السخط، لأسباب فيها الخفي وفيها المعلن، وأهم ما يُعلِن عنه خصوم التصوف هو اتهام الصوفي بالخروج على النص، والمروق، الكفر.. والواقع، أن الصوفي في أحواله يتدرج.. هناك حالتان من أحوال التصوف، قد يمر بهما السالك ماكثاً فيها قليلاً أو كثيراً، هما حالتا الجذب والملامة، وقد يجمع صوفي بين الحالين، أما الجذب فهو حالة من غياب وعدم اكتراث بما يليق وما لا يليق، فالمجذوب ليس شأنه إدراك واقع مليء بالأغيار في حالة فنائه، فقد يتصرف أحياناً ضد النص والعرف وميزان القيم دون سابق قصد، وربما يفعل ذلك بقصد الفعل، لسر بينه وبين الإله. وفي كلٍ، فقد رفع عنه القلم فلا يسري عليه النص وحسابه إلى الله.. في عهد الفونج كان الفقهاء يدركون هذا، فكان تجريم الصوفي بالنص محدوداً، ويدان بالعطب أو اللعنة.. ففي جبة التصوف، هناك أكثر من حلاّج..! أما الملامتي فهو يتصرف بوعي في اتجاه تنفير الناس عنه، وصرفهم عن الاعتقاد فيه، ولأجل هضم النفس وسوقها بإخلاص نحو ربها، وإخفاء السر الذي بينه وبين الإله، بأن يبدو في الظاهر خارجاً على النص. في حالة الشيخ إسماعيل التي تحدثنا عنها سابقاً، لم تكن قيم الدين والعرف غائبة، لكن حالة الجذب أو الملامة كانت هي عبق عالمه الروحي.. وكان الناس ينظرون إليه كعابد لا كمارق، وهو قدير على العطب، وعالم بالتشريع وداعية إلى الطريق، والناس يلتمسون له العذر، فيهرب الرجل بزوجته التي يطاردها الشيخ دون استثارة أهله في ذلك الزمان القبلي ليحاربوا معه الشيخ المجذوب. ورغم صرامة القبيلة في قضايا العرض، فإن الطريقة في تبجيلها لذوي القداسة جعلت التبصر في أحوال ذوي المقامات، لا الإنكار عليهم، قيمة مضافة إلى قيم التعايش مع الآخر في المجتمع الهجين. في مقابل عالم الشيخ إسماعيل هناك عالم الشيخ فرح ود تكتوك.. القاسم المشترك بينهما هو روح العصر وشذاه الصوفي.. وعالم صاحب الربابة اصطبغ بالرمز والإشارة، وود تكتوك صاغ تجربته من وحي ثقافته الفقهية.. غايتهما واحدة، لكن ود تكتوك تخير إليها الطريق الطويل. سئل الشيخ فرح عن صاحب الربابة فقال: «له المزية عليّ لأنه الفارس ولد الفارس وأنا الفارس ولد الدرّاق» ..! هذه عبارة رشيقة تنم عن تواضع، قصد منها الشيخ فرح القول إن صاحب الربابة سليل ملك، وإنه ممن تجرد من أسر الثقافة الفقهية وتمثل ثقافة الهجين، وعلى كل حال، فإن الفارس لا يكون فارساً إلا إذا كان دراقاً! فأي منهما له المزية على الآخر..؟! المهم أن الشيخ فرح كان أقوى صوت شعري في الجيل الثاني للتصوف السوداني، فهو الناعي لرواد الجيل الأول من أعيان السودان في عهد الفونج، وفي هذا الضرب جاء شعره كالبكائيات بإحساس من يظن أن الماضي أكثر نصاعة من الحاضر، وأن «الرجال تحت التراب».. عالم الشيخ فرح ينبض بالحكمة التي محصتها التجارب، تجارب التطواف في البلاد، والاختلاف إلى مشايخ كثر دون تقيد بطريقة واحدة، أو بنزعة قبلية أو عرقية.. إنه الصوت الشعري الدال على شيوع الثقافة الفقهية اللازمة للمتطرقين، بالمقارنة مع تجربة صاحب الربابة التي وصفت عصراً مشحوناً بالشجن الصوفي كسبيل إلى الفيوضات الإشراقية.. بمعنى آخر، تقيد الشيخ فرح بما تعارف عليه عصره من مباديء «الصوفية المعدلة» بينما كان الشيخ إسماعيل يغني بلسان مجتمع هجين، أخذ بما علم بالضرورة من ثقافة التدين الشفاهية.