قال أحد الفلاسفة إن حب الإنسان ينبغي أن يكون للكون كله، ولكن لتتجسد مشاعره تجاه شيء ملموس خلقت الأوطان.. تذكرت ذلك وأنا أشاهد افتتاح الدورة المدرسية في حاضرة شمال كرفان، فأوحى لي هذا المشهد السوداني الصميم بأن فكرة الوطن تجسدت هاهنا، تنوعاً وتوحدا.. كان السودان(نسخة أصلية) حاضراً تماماً وكما تصوره شعراء الاستقلال، فسيطرت معاني العزة على الأجواء وكردفان تتجلى(غرة) كما اشتهرت، خيرها (جوة وبرة) ما زال. مثلما هناك أشخاص سمتهم النجاح، يحبهم ويحبونه، هناك أماكن ما ذكرت إلا وتذكر الناس تميزها واستعدادها لكسب الرهان متى اشتد الوطيس واتجهت إليها الأنظار.. فالنجاح الباهر الذي حققته الدورة المدرسية بحاضرة شمال كرفان كان مع حسن التخطيط والابداع في التنفيذ يسنده إرث من المناقب الكردفانية- الوسطية، التنوع، الثراء، الكرم، وتقمص الخصال السودانية المجسدة للهوية السودانية عملياً.. فطلاب السودان تنادوا من جميع الولايات ليجدوا أنفسهم في بيئة مهيئة بمناخ سوداني خالص، فأبدعوا مجسدين شعارهم (عزيز انت يا وطني).. وكأنه كان شعاراً لنفرة الولاية التي استنهضت عزائم العزة في أهلها، فجعلت كردفان كعهدها حاضرة يفيض كسبها.. ولاية تتمتع بحضور متكامل حتى أن الدورة وجدت الناس في حالة حراك في كل المجالات، فحدث التضافر وكسب الزمن ونجاعة الموارد والتصويب للهدف المخطط له مركزياً وولائياً.. ليت كل الولايات تكون في حالة حضور، بنفرة أو بغيرها.. ليتها تصبح نفرة مستدامة في كل البلاد تحررها من موبقات(الروتين) و(تأجيل عمل اليوم الى الغد). استنهاض الهمم مطلوب فهو الذي يأتي بالفرق.. ربما أرادت ولاية شمال كردفان أن تضرب المثل كما فعلت ولاية الجزيرة (حديث الوالي لمؤتمر إذاعي بالجمعة).. هذه النفرة اختارت أن تقترب من أهل الولاية فأثمرت.. أنها من طبعهم وسجاياهم.. رفدها للحركة الوطنية والثقافية والتعليمية بالرموز والنجوم والأفذاذ منذ الاستقلال.. رؤساء وزراء برلمانيون.. مهنيون، ومبدعون، وأوائل.. خورطقت، ثم (كردفان) الصحيفة الاقليمية الفذة، مكتب الإعلام والثقافة، الرياضة، مبادرات رجال الأعمال وحداة الإنتاج، المحاصيل، الثروة الحيوانية، أكرم وأنعم.. فيض من الخصال يتصدرها هذا التعايش مع غيرهم بالفطرة والنقاء وحسن المعشر، كما جسده الطلاب في لوحة الافتتاح.. تظاهرة سودانية خالصة تحسم جدل الهوية والموارد والأفكار، والقابلية لتجاوز مظاهر الوهن واليأس ومهددات العزة التي استدعت هذا الشعار الموحي (عزيز أنت يا وطني). لقد أطل مشهد افتتاح الدورة المدرسية بدلالات بليغة في وقت تتعالى فيه الأصوات الحادبة على الهوية، وبعضها يتخوف من أن تنال منها نوازع الوهن والتراخي والهشاشة في عالم متغير تكتنفه مهددات الشرذمة والتنازع.. ليس بمقدورنا أن نبقى بعيداً عن ما يهدد غيرنا.. أن بعض المهمومين بأصولهم بدوا يتلمسون نوازع الأصالة فيهم- أي ضمانة بقائهم على هويتهم- ويرون أن الحد الفاصل في مسألة الأصول هو سلامة (الجينات) السكانية من التأثيرات الضارة بها.. الخطاب العام في هذه الآونة يبدو متأثراً بما يجري حولنا، وكرد فعل لذلك يتجلى مظهر التباهي شعراً ونثراً، بمشهد الاستقلال ورفع العلم ودلالات ذلك من وحدة التراب والإحساس، بمعنى أن يظل الوطن حراً موحداًعزيزاً، كما هو شعار الدورة التي تعهدت بالتأكيد على المعاني الوطنية المورثة عبر مسيرة التحرر الوطني، وذلك من خلال فعالياتها الباهرة، ولعل الدولة تسارع فتجعل من هذه الآلاف من الطلاب المشاركين، فيها نواة للفعل الحقيقي المرتجي لأن يبقى السودان كما أراد له جيل الاستقلال منيعاً ومتطوراً بأيدي أبنائه. هل حملنا الأمر ما لا يحتمل؟.. يبدو أن حالة الإحباط والتسويف والاخفاقات المسيطرة على الخطاب العام تجعل الفرح بشيء ما ناجح يتجاوز حدوده.. الآن أرى الفرحة طاغية بطلابنا وهم يستعرضون مواهبهم وإبداعاتهم وشكيمتهم.. إن الدورة تبدو لنا من على البعد ملحمة طلابية علمية تطبيقية مؤججة لآمال بلا حدود.. فلنؤمل في (إدارة) عن (إرادة) تعظم شأن التخطيط وأخاذ القرار ومتابعة التنفيذ ليتسنى، أولاً لمناهج التربية والتعليم أن تنبت أجيالاً منيعة ومواكبة.. ولنؤمل ثانياً في ولايات تحسن إدارة ثرواتها وتوظيفها، المال والبنون معاً. حوارات ونفرات ومهرجانات، العبرة بالنتائج.. وكيما يحدث تغيير بناء في هذا الاتجاه نحتاج لأمرين، قدوة لهؤلاء الشباب، ومثال يحتذى للإدارة الفاعلة بلا إسراف على نحو ما يبدو في هذه الولاية، وولاية الجزيرة من تغيير.. هذا زمن الابهار التقني والتميز البشري، ففيم نؤمل إذا لم نؤمل في إرساء مناهج التخطيط العملي، وتشجيع اتخاذ القرار الحاسم والنافع، ليكون بالإمكان تجاوز الجمود وسيرة الفساد الضاربة لنضرب المثل لامكانية الإصلاح، وحل المشاكل والانطلاق نحو الآمال المؤجلة، كما فعلت دول عديدة نهضت بعد كبوة. هذه مجرد خواطر متفائلة أوحت لنا بها عن بعد دورة تبدو متميزة، تزامنت مع ذكرى لاستقلال مجيد ملاحمه مفعمة تجسدت في ولاية تمسي وتصبح على (نفرة) غايتها تنمية منتظرة منذ رفع العلم، فاتخذت الفعاليات طابع النفرة هي الأخرى تتلاحق نجاحاتها والفرح بها فكأنما (وقعت في جرح).. التحية للولاية المعطاءة ولواليها الهمام، ولتعمم فكرة النفرة، ولكن مؤسسة على منهج علمي وابداعي ومستدام تسعفه القرارات الحاسمة ونوازع (البيان بالعمل). أما غاية الآمال فهي أن لا تكون هذه الإحتفالية هي كل شيء، فنمضي للنهاية بهذه الثروة البشرية الهائلة وقد لاحت طلائها، تجبر الخاطر- طلاب مبدعون عن فهم، واشداء عن علم، عينهم على عزة وطنهم كما هو الشعار، متعهم الله بنظام تربوي وتعليمي كامل الدسم يتعهد بوضع الأمور في نصابها.. التحية هنا واجبة للوزارة الاتحادية وللوزيرة الموفقة الصامدة أمام امتحانات دائمة (المناهج، الشهادة السودانية، وهذه الدورة)- هذه الثلاثية الحارسة لنقاط التحول في المجتمع والدولة.. التقدير موصول لإدارة الدورة بقضها وقضيضها ونسألها: أين تذهب هذه التجارب الابداعية المتراكمة لمدي (25) نسخة؟ وماذا فعلت لروادها المتعاقبين، وبهم؟.