كانت الأسرة في الزمان القريب تحيا حياة طيبة لايكدرها شقاء ولايتخللها عناء، لأنها تؤمن بالجليل وترضى بالقليل، لا يهمها من كماليات الحضارة شيء، تعيش القناعة وتستمتع بما عندها من مأكل ومشرب وملبس مهما كانت بساطته، لا تتطلع إلى حياة الحضارة والبهرجة، فقل مرضها وحسنت صحتها، وتوطدت علائقها مع القريب والبعيد، فهم يتفقدون بعضهم إذا هم غابوا، ويرشدون بعضهم إذا هم عابوا، كانت لديهم مساحات واسعة فيما يسعدهم ويجعلهم أكثر تواصلاً وترابطاً وتعاوناً ومحبة، يجلسون للطعام والإنس في جماعة، ومن خلال جلساتهم هذه يتبادلون الآراء والمشورة في أمورهم الكبيرة والصغيرة في صراحة تامة وبراءة متناهية، ومن بعدها يتفرقون في هدوء بال فينامون بلا تفكير أو هاجس يؤرق راحتهم، وإن عاد المساء يتحلق صغارهم حول كبارهم يؤنسونهم بالمثل العليا، ويحجونهم بالقيم السمحة في ضوء القمر، بعد أن أكلوا (عصيدتهم) بلبن أو غيره، مما تيسر في رضاء تام وقناعة يتم بها هضمها وتحويلها إلى غذاء كامل لأجسادهم، فكانوا أقوياء منذ نشأتهم الأولى لا يشكون فتوراً ولا يشعرون بألم مثل آلامنا اليوم، فالذرة لا يسمعون بها إلا في الآية الكريمة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) والكل لا يتذكرون أنها فيهم لا جهلا منهم بل عافية فيهم، فإذا ارتاح الضمير وهدأ البال كست العافية الجسد. كان الراديو عندهم مرفهاً ومنعماً، تطربهم أغانيه وتبسطهم نشراته، فيتابعون برامجه بكل انشراح، وكانت الأسرة تتبادل همومها وشؤونها وتتفاهم في كل أمورها ويعرف كل واحد من أفرادها مايفكر فيه الآخر ومايحس به ثم جاءت الحضارة، فتفرقت وتفككت الأسر بمعاولها فحولت كل فرد فيها لأسرة بنفسه قائمة بذاتها، فهذا مع هاتفه يقلبه وذاك مع مسلسل يتابعه، وذا مع لابتوب يحرك دقائقه، والكل مع هواه حتى صار البعض لايدري مايجري حوله في أسرته نفسها، فلاجلسة ود تنفع ولا أمر مهم يجمع ففر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه في دنيا الحضارة المزعومة قبل الآخرة الموعودة، وإن سألت عن الراحة فهيهات فقد صارت تعباً وإرهاقاً وكأساً بالمرارة دهاقا، وإن سألت عن الغذاء فما أدراك ما الغذا، فقد تحول إلى سم قاتل لما فيه من تحوير وبرومات البوتاسيوم واليوريا، ومبيدات متنوعة وطرق تحسين تجاري لا صحي يعرف ضرره أهل الاختصاص، فيكتمون سره حفاظاً على حياتهم فبقلق الحضارة والتطلع والتنافس والاشرئباب للأفضل، وبسوء المأكل والمشرب والملبس الذي تحول من القطن الذي يناسب مناخنا إلى بترول يسلخ جلودنا تفشت الأمراض، فامتلأت المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والعيادات الخاصة، ودور الشيوخ وأهل الشعوذة والدجل بالمرضى، حتى صارت أجرة مايرهق الجسد في العمل علاجاً للجسد نفسه عند الأطباء، فما أسعد البوادي التي تستمسك بالماضي وتستمتع بالعصيدة والرادي، وتغازل النجوم والقمر وتنام تحت ظلال الشجر، فما أشقاها واتعسها إذا تبدل حالها، وركبت مركب الحضارة الذي سيغرقها لا محالة في لجج الشقاء، وما اسعدنا زمان وما أشقانا الآن..