تداهمني الحيرة كلما فوجئت بمتحاورين يعيدون ما قيل وفاضت بتوصياته الأضابير.. صادفت أمس ما سرني، حوار في الاتجاه المعاكس انتظمت فيه «بحرقة» مجموعة من المهمومين بالقضايا الراهنة وكأنها تخصهم وحدهم.. احتجوا على التوصيات السابقة التي لم تنفذ وتعهدوا بأن يأتوا بجديد في مشكلة تبدو مستعصية.. فمن هو «الفقير»؟.. لقد تجنب المتحدثون الخوض في هذا المعترك لكن بمحض صدفة انبرى للأمر خارج القاعة.. أستاذ جامعي صنف نفسه في خانة «فقير» وقال لأنه من سكان الخرطوم و«يحتطب» رزقه من جامعة لأخرى وهو بذلك سعيد.. لأنه أصبح مستحقاً لأنبوبة غاز «مدعومة».!. نعود للبداية قبل الاسترسال في «فتوى» هذا الأستاذ الجامعي «الضحية».. فمقدم الورقة يراهن على الثورة على السلبيات والتوصيات غير القابلة للتنفيذ.. إنه يتحدث بحسم، ورقته «رقمية» ملمة بتفاصيل ما يجري في المجتمع وعنوانها «معالجات الاقتصاد الاجتماعي لقضايا الفقر» - الباحث عبدالمنعم عطا المنان.. عرفه لي منظم المنتدى الأستاذ عمر عبدالقادر: «ناشط، باحث، تقلب في العمل الاقتصادي للاجتماعي باهتمام عميق وشخصي». الحضور بين باحث وناشط و«ساخط» في مجال العمل الاجتماعي المتأثر بالأزمات الاقتصادية المتلاحقة.. هناك دراسات إحصائية حول الفقر تضع اليد على جراحات «ما حدث» في السنوات الأخيرة جراء تطورات مباغتة في مسار المجتمع.. أما الساخط منهم فملامح وجهه كانت تكشف عن دواخله وهو يستعرض الوضع الراهن اجتماعياً نتيجة السياسات الاقتصادية التي اتبعت بعد انفصال الجنوب تحديداً، ومنهم خبير «أفنى زهرة عمره في هذا المجال»- كما تم تقديمه «أستاذ سراج الدين محمد الأمين».. ومنهم من تعرف من نبرته أنه «مشهور بغيرته على البلاد والعباد».. بين الحضور خبراء وحملة درجات علمية عملوا بوزارتي المالية والرعاية الاجتماعية أفاضوا في «كلام المجرب» و«يشهوك» في فكرة «المستشارين». وجدتها، وجدتها.. لقد اكتشف الحضور «أن من وضع المجتمع في ذمة الاقتصاد هو المسؤول».. العنوان «الاقتصاد الاجتماعي» يوحي بفهم جديد ينطلق من الأمرالواقع، فالمجتمع اليوم قي ذمة أصحاب القرار الاقتصادي.. عقلية منظم المنتدى تميل للتجديد في طرح القضايا ومن باب إعطاء العيش لخبازه، لغة الأرقام، الرجوع للمجتمع، استدعاء من بيدهم الملفات، التوازن بين الشباب وأهل الخبرة.. هذا مشهد عام للحضور بلسان حال ينادي بالتجديد والإضافة وتمزيق التوصيات المعادة والأخذ بمنهج «هات من الآخر» فلقد ضاع وقت كثير في الكلام والتجريب.. النقاش انطلق من هذا للإقرار بنتيجة إحصائية مبشراً «يعتبر المجتمع السوداني مجتمعاً يافعاً»- وذلك وفقاً لآخر تعداد سكاني «تقدر نسبة السكان أقل من 15 سنة بحوالي 41 بالمائة».. تضيف الورقة: «ستتراجع هذه النسبة إلى 37 بالمائة بحلول عام 2031».. هناك غموض ومقدم الورقة يفسر «ذلك يعني أن توليد فرص العمل سيظل تحدياً ماثلاً».. ما الحل؟.. المجتمع يعول نفسه فمعدل الإعالة الاقتصادية لا يستر الحال.. الإستراتيجة القومية عام 1992 كانت قد عولت على فلسفة «المجتمع القائد» الذي يصنع دولته ويدعمها.. الورقة تذكرنا «أن معدل النمو السكاني يسير بوتيرة أسرع من النمو الاقتصادي».. وأن «توزيع السكان غير متناسب جغرافياً» إلى أن تقول بكل أسف: «الخصائص السكانية متدنية بشكل عام». هناك نجاحات تعفينا من الانزعاج «حقق السودان خلال العقد المنتهي في 2009 معدلات نمو غير مسبوقة».. كيف ذلك؟.. وأين ذهب من حققوا ذلك؟.. لقد حدث ما لا يسر «انخفاض نسبة السكان الناشطين اقتصادياً، ضعف العلاقة بين نمو الناتج القومي ونمو فرص التشغيل».. الأرقام فيها ما يشيع التفاؤل.. فالباحث يؤمل في استجابة إستراتيجية الدولة وفي ميزانية الأسرة «عائد الزراعة40 بالمائة من ميزانية الأسرة، المرتبات والأجور31، أخرى».. وهذه القراءة تكشف أن هناك علاقة بين الفقر والمستوى التعليمي لكاسب الرزق الرئيسي للأسرة، فالعائل غير المتعلم يشكل 60 بالمائة من مجموع الأسر الفقيرة.. بينما نسبة المتعلم9 بالمائة فقط.. هناك لغة جديدة مثل «الحرمان الغذائي» وهو يقع على الأسر التي تعيلها نساء ونسبتها 37 مقابل 31 في الأسر التي يكون على رأسها رجل.. للمفارقات بقية «تحتل ولاية الخرطوم المرتبة الأولى من حيث عدد الفقراء كرقم مطلق».. إن حديث «فقراء المدن» دخل الحوش. وهناك جدل يطلقه مناقشون أشداء في طرحهم، فبينما يرى متحدث بدرجة «خبير» أن التقصير مشترك ويدعو لاكتشاف بدائل والاهتمام بالتعليم.. يرى متخصص في مجال إنفاق المال وفق أوجه شرعية «أستاذ علي بديوي» أن هناك فقراً في المعالجات.. فالسياسات المالية التي يضعها الأفندية وتعتمد على الكرباج لا تأتي بحلول جذرية.. والصحيح أن يضعها من هم قريبون من المجتمع الذي يعيش فيه الفقير.. هناك فقر ناتج عن المعالجات، فمنح الخريج ركشة ليس حلاً، فلنراجع منهج التعليم الذي يعطينا مثل هذا الخريج ومثل ذلك العاطل الذي يأخذ من أمه حق الرصيد، التعليم المهني هو الحل.. هناك آراء أخرى تقول إن السودان غني ولكن في عالم الغيب، وممارس للإدارة يدعو لخفض الإنفاق الحكومي عملياً ولميزانية تبنى على الاستهلاك لا الإنتاج تتغلغل المعالجات في شعيرات المجتمع.. وهكذا. الجدل يراوح، من الفقير- ما العلاج؟ بينما التردي يتمادى.. فالآن الحديث عن «فقر القدرات» وعن «فقراء المدن».. الحل في العلاج المتكامل، التأهيل، تعزيز خصائص أهل السودان، التكافل، الإنتاج وليست المساعدات، إرساء مفاهيم تكريم الإنسان كمركز لدائرة الفعل المنتج، البحث عن نموذج اقتصادي يزيد الإنتاج يحقق العدالة ويمنع الوقوع في الفقر، تبني سياسات تسعف حال الأشد فقراً، لكن كيف نعرفهم؟.. هذا السؤال يعيدنا للبداية، لما قاله الأستاذ الجامعي مرتباً أوضاعه كضحية لوضع اقتصادي ليحصل على أمبوبة غاز «مدعومة».. حجته أنه من سكان الخرطوم وأنه «يحتطب» لرزقه من جامعة لأخرى.. عن أي فقير نتحدث؟ إن المنتدى حمل الاقتصاد مسؤولية ما حدث للمجتمع كما رأينا، وفي هذه الأثناء تخرج وزارة المالية على الناس وتحدد «من فقيرها».. أوليس هو من يستحق أنبوبة غاز مدعومة؟!