هدية كادت تفسد بهجة العيد، وجدتني في دفء الأهل وظلال النخل الذي أحبَّنا وأحببناه، إنه كتاب عن أيام الحرب في دارفور صادر عن (SMC ) مؤلفه الأستاذ إسحق أحمد فضل الله، نعم هكذا هي حرب وإسحق. وأنت موعود بالتوتر من البداية، فإسحق هذا نفسه يقول صراحة يحذرنا «هو كتاب مؤلم مخيف قاسٍ» تصوروا، كأنه يبرئ نفسه من العواقب. الأكثر إثارة للتوتر أن تفاجأ بأنك تقرأ عن أحداث وقعت بالأمس القريب لكنها تبدو الآن وكأنها وقعت في الجاهلية لغرابتها، وأصبحت في ذمة التاريخ بما طالها من النسيان، حتى تكاد لا تصدق وأنت تقرأ روايات إسحق أن دارفور كانت مسرحاً لكل هذا الذي حدث في سنوات قليلة «مرت من هنا». إن طريقة إسحق في الكتابة تجبرك على التهام الكتاب دفعة واحدة، فالجانب السياسي المأساوي يتوارى فجأة لتستمتع بروايات أخرى بأسلوب أقرب لأسلوب أجاثا كرستي وألبرت مورافيا ونجيب محفوظ وأنيس منصور، الذى تعهد أن لا يترك القارئ إلاّ عند نهاية المقال، وهكذا يفعل إسحق. الأكثر إثارة للعجب أن جميع أبطال روايات إسحق اختفوا من مسرح دارفور وفى ظروف غامضة كما تقول أخبار الجرايم، جورج بوش وتوعداته، كوندوليسا رايس وغطرستها، وكوفي عنان وسناريوهات مجلس الأمن، والوفود المتزاحمة أمام بوابة دارفور ومطارها الذى دخل التاريخ بأحداث مازلنا نذكرها، ونذكر كم استعصت دارفور على الدخلاء؟. الروايات مثيرة تذكرنا بأسماء غريبة ودخيلة وشهيرة شغلت القنوات فى تلك الأيام من الأعوام 2005 - 2007، برونك، ناتسيوس، ونترز، جنداي فريزر، إيقلاند، روجرز، زويلك. منظمات الإغاثة، القوات الأفريقية، القوات الهجين، الاجتماعات السرية والعلنية، ومنابر إملاء الحكمة وادعاء التفويض والتستر بالسلام. وللكاتب معلومات تحيرك، من أين له بها؟. فيأتينا من الوالي عثمان محمد يوسف كبر بالخبر اليقين، أنه قال للآنسة رايس «كيد وكيد» مما تناقلته القنوات في حينها، مع نبأ الطائرة تلك التي ظلت معلقة على هواء الفاشر تبحث عن طريق وسط أجساد الكتل البشرية الفتية الموحدة «الحي الله والدائم الله».. الرسالة وصلت والطائرة تراجعت. وللحاج عطا المنان الوالي موقف عجيب سجله التاريخ وهذا الكتاب «إذا عبرت سماء دارفور طائرة واحدة دون إذني فسوف أسقطها». هكذا يروي إسحق ويوزع مجاناً وعلى طريقة كابلي «ذاع وعم القرى والحضر»، فنقرأ فى قرية بعيدة آمنة السيرة الذاتية لشخصيات غريبة الشكل دخلت البلاد، ليعرف من لم يكن يعرف. فمن هو السيد ناتسيوس هذا الذي جاء «مندوباً لأمريكا فى الظاهر» وجالس رجال الدين وأفتى في مصير دارفور وهوية البلد و... «على راحته»؟. يكاشفنا إسحق بالسر: «إن ما يدبر للسودان تأتى به سيرة ناتسيوس» فهو يحمل ركاماً من الشهادات الدراسية والتقليدية، مؤلف، متدين، نصف قسيس، قادم من الصومال والعراق ولبنان وكوريا الشمالية. إنه يقص على الناس القصص الأكثر دموية في العالم الثالث. مازلنا نقرأ، وإسحق يهدينا عيدية تصلح لكل الأعياد: «كل شيء يقول إن ناتسيوس سوف يسلم، إسلاماً يرمى فى الشوك». وينسب له: «هناك مجتمعات يستحيل فيها المتاجرة بالدين منها دارفور». ثم هو «ضد نشر العلمانية مع الطعام فى مناطق الحروب». يقول إسحق إن الرجل يعلن انه «لا شيء يمسك المجتمعات ويمنع سقوطها مثل الدين». وإنه «ضد استخدام الجوع والطعام لإسقاط الحكومات» و«لا شيء مثل الجوع يصنع الفوضى». ومثل هذا الغوص فى هذه الشخصيات التي دخلت البلاد وخرجت، يجيده إسحق وكأنه خبير فى كيمياء البشر والنوايا. دعك من معلوماته، المهم تحليلاته التي أصبحت الآن في عام 2009 أشبه بأشياء للذكرى، بعضها تحقق وبعضها منتظر. ولكن يا ترى ما حظ فتوى شيخ إسحق: «السودان يبحث عن سودنة ناتسيوس، ولو حتى سودنة على طريقة بائعة العرقي أيام الاستعمار»، والقصة أو النكتة مشهورة وهو قد حكاها لكني لا أستطيع. إسحق لا يجارى في «براءته» و «براعته». أما القول القاطع عنده فهو «كل شيء يلتقي مع كل شيء فى ناصية طريق مخطط تدمير السودان»، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وهذه من عندي. ففي تلك الأيام من العام 2005 القتال يتوقف فعلاً وفرحة نيفاشا تكاد تكتمل والمفاوضات لم تنتقل بعد من أنجمينا إلى أبوجا، ومطالب الحركات المسلحة لم تكن سوى «إصلاح محدد ومقبول»، وكل شيء يتجه إلى التوقيع ثم ليلة غنائية، وعلي عثمان وصل القاعة في العاشرة تماماً وبين يديه قلم «باركر». فجأة ينتقل الملف دون علم الخرطوم وأنجمينا، ليحدث شيء غريب: «ضرورة تدخل المجتمع الدولي» أعلنها عنان. مازلنا نقرأ: وتغير كل شيء، والاحتفال يصبح مثله مثل كلما يقال فى أول أبريل، وأبريل هذا من العام الذي شهد الاحتفال المهيب في نيروبي بمناسبة تخلي السودانيين عن الحرب، ولكن ذلك يغيظ البعض، ويحرك المستجدات. القوات الأجنبية تريد أن تدخل السودان بأي شكل، وللأمم المتحدة مندوب خاص ولأمريكا ولغيرها من الدول «المنقذة». وإسحق يذكرنا ويذكرنا وكأنه يضحك من شيء ما: «إن العالم يجري تفكيكه». وليس هذا هو مصدر الخوف عنده، فالاتحاد السوفيتي تم تفكيكه.. و و و... مما نعرف جميعاً، الخوف هو نجاح مشروع «تفكيك الأسرة»، وهذا يجري الآن بشدة، والحل في الأيدي المفتوحة واليد العليا. ويضيف: إن ديوان الزكاة يخصص ستين مليار جنيه للأسر الفقيرة مشكوراً، ولكن هذا لا يكفي، ما يكفي بيدك أنت. ويستشهد بتصريح خطير لإمام المسجد «إن ثلاثة أرباع المصحف عن الانفاق». والتفاصيل صورة ناصعة عن «حلاوة عيش الأسرة الفقيرة المتعففة» أسرة مشحونة بالأولاد والبنات، والغليان فيها يبدأ من الصباح، فملابس كل واحد هي ما تصل إليه يده قبل غيره، وصينية الطعام تصبح بيضاء ناصعة فى دقيقتين، والعافية هي أنه لا أحد يحمل حقداً.. الخوف هو تفكيك الأسرة.. ويمضي إسحق ليستدر عطف من قرأ الكتاب «عليك الله، أمشي المايقوما وخد طفل». لعله يقصد أن تفكيك الأسرة مشروع استهداف سافر تتعرض له البلاد وهويتها ومستودع القيم فيها ويكون بغير البندقية أيضا. ويعود ليذكر بمعركة أهل الإنفاق والتكافل ورتق النسيج الاجتماعي الباحثين عن البديل لأصوات البنادق. وإسحق يتكلم عن لواءات من نوع جديد ظهروا في سماء تلك الأيام «بروفسور الفادني والسيد بدوي الخير»، حيث نظم ديوان الزكاة أفواجاً من طائرات العون بلا منٍّ أو أذى، وفتح الاحتياطي الإستراتيجي مخازنه، وأثناء كتابة هذا المقال عرض التلفزيون نماذج مصورة لكرم أهل دارفورالذي استعاد مجده، ليكون فى استقبال الدورة المدرسية وعيد الاستقلال. الكتاب يوثق لتلك الأيام لا أعادها الله، ولسان حاله: «فال الله ولا فالكم» يا من تريدون السودان مفككاً وقد نال استقلاله موحداً.