كتب الأخ عبد الله الشيخ وهو يجلس تحت خط الاستواء كتب مافحواه«نمش وين ونعمل شنو؟ تحت عنوان» ما كنت عارف وأقول له قديماً تفاءل الإمام الشافعي بأبيات حكيمة يقول فيها : رب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا ** وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكنت أظنها لا تفرج، ولكن أذكر أنني كنت راكباً في مواصلات بري، وردد أحدهم هذين البيتين ولكنه ختمها خلافاً للشطرة الأخيرة من عنده قائلاً ولما استحكمت حلقاتها ضاقت زيادة.. فالمسائل كلها تبدلت، والحياة كلها تغيرت، فإذا كان الأخ عبدالله يجلس تحت خط الاستواء وعليه بطانيتين في هذين اليومين فهذا شيء طبيعي لتقلبات المناخ، ولكن الشيء الذي هو غير طبيعي ما صرنا نعيشه ونتعاطاه في حياتنا المغلقة- كما ذكر- فالخبز بأنواعه اندست فيه برومات البوتاسيوم والخضروات كلها تحولت إلى سم قاتل بالمبيدات المتنوعة، والفواكه قد تغير طعمها ولونها ورائحتها بما دخلها من مواد مسرطنة لتغيير لونها وحفظها، والماء صار غير طهور بالتلوث، والأزياء ماهي بالأزياء، فقد تحولت إلى الأذى الجسيم بما خالطها من كيماويات فتوقفت الكلى عن عملها عندالصغار والكبار، وامتلأت الذرة بالسرطانات، وازدحمت بالمرضى المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الخاصة، ودور الشيوخ وأهل الدجل والشعوذة، وما من أحد من الناس إلا وهو يشكو من مرض أو يحمل في جيبه عقاراً فقلما تجد عابراً لم يشكُ فتوراً، وهذا من أخف الشكاوى التي يحملها كل عابر في كل طريق وأما عن الكلام فقد تعددت ألوانه وفاقت الألوف حتى تبدلت حروفه ووصلت.. أعقد من حروف اللغة الهيروغلوفية فاستعصى فك رموزها حتى على شامبليون وتوماس يونغ زماننا، والعلاقات تبدلت ولبست أزياء الكذب والنفاق، فعلت لغة المصالح على لغة الصلاح والإصلاح والفلاحة علي الفلاح والدغينة علي السماح، والمال قد هبطت قيمته وصار وزنه بزنة السلعة حتى صار كل شيء فيها في غير مكانه، ففارقت الحياة جمالها ورونقها، وتناقصت عن كمالها وتبدلت عن حالها، فغدت أحياؤها بلا قول يصدق ولا عمل يحقق حتى صغارها اتقنوا الكذب والخداع.. أما كبارها فحدث ولا حرج، فمن يحادثك منهم صار يحتاج الى قسم وشهود، ومن يجالسك منهم صار يحتاج الحذر واليقظة، ومن يقاسمك منهم يستدعي ميزان بقسطاسه، فقد فارقت الرحمة كل حي المنتج و المستهلك البائع والمشتري كلاهما تقاسما ضنك المعيشة بعدم ذكر الله والخوف منه، نسوا الله فانساهم الله أنفسهم حتى صاروا حزباً للشيطان، وصار الشيطان هو الآمر بالشر والناهي عن الخير، فقد سلموا أنفسهم له فحتى المخلص الجاد في عمله الخائف من ربه صار هو العدو الأول للمسؤول عنهم، وما أكثرالنعوت له:(فقر، صعب، مافيه خير، دكتاتور، لديح...) والأكثرون منهم يبغونها عوجا من أجل أغراضهم ومصالحهم لا من أجل الحق كانت النعوت، وهكذا تغيرت النفوس وسيطرت المصالح، وحكمت الفلوس فغابت الروح بصدقها ورقتها وإخلاصها وطهرها وأمانتها وتقديرها وحفظها لكل جميل جاء به الدين القويم، وتجلت المادة بكل ما تملك من مظاهرها السالبة بجفائها وصراعها وخصامها وحربها، وغشها وخداعها ونفاقها وكذبها، حتى فقدت الحياة كنه جمالها الذي من أجله كانت تحلى ويتمنى المرء البقاء فيها والخوف من فراقها ومفارقة أهلها، فهي عندما تفتقد الصدق، فالصدق وحده هو الأب الروحي لروح صفاتها الجميلة كلها تفقد كل معناها، فتصبح بلا جمال يزينها ولا آمال تحببها ولا سعادة تكملها فتبقى محبة الموت، والرحيل عنها هو الخيار الأفضل لكل نفس أبية متمسكة بدينها وخلقها، وصدق الصادق الصدوق الذي لا ينطق عن الهوى وهو يقول «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه فيقول يا ليتني مكانه» فهل وصلت أم أننا وصلناها.