أوقفت العربة ولم أنزل ..الساعة الخامسة مساء ... ليل ثقيل كطعم الحزن جاب عيالو وعشش في سمانا من عصراً بدري ... ليل لم يُر فيه قمر ... كثيف رطب بارد لزج ... ريح تصفر بين الشجر ونباح كلب بعيد ... أنين إطارات السيارات في الشارع الرئيس تتناغم مع صوت القطار وصافرته التي تذكرني بداخلية البنات في كلية الطب وغرفتي التي تطل علي الصَنَفور تحديداً .... أحدهم يخطو في الطريق لوحده يدندن لحن يقطعه بصفارة شترا ... جلست وصوت "عوض الله بشير" يأتي حالماً كالحجى في زمن أندى من خد العروس ... صداحاً برائعة القدال: انت في ليل الخوابي تهاتي بناس الطوابي .. إختلط هذا السحر بهدير المحرك وصوت الهواء الساخن المنبعث من المُكيّف المسكين الذي لم يفلح في تبديد الغباش من الزجاج الأمامي فزاد من ضبابية الصورة وقتامتها ومن إعتمال أسي مدفون في الحشا ... أسى لم تجدي معه كل محاولات التداوي فهو لايفارقني ولايريد أن يهجع .. شرد مني عقل وتململ مني فؤاد وإرتصّت كريات دمي زي بنات الحفلة... حفلة بالرق وعلي ضوء الرتاين ..ممسّحات سمراوات خداً مشلخ وخداً سادة ..... متغنجات نايرات متّشحات بالفتنة ومليانات بالتوقع ... هفت روحي ...ورقّت..صارت أرهف من السبيبة وأحدّ من نصل الخنجر ... ملاني الحنين وإرتشح .. ... باكر الجمعة .. يوم الجمعة يا يوم عيد المسلمين..عيد هناك..هناك عندهم بخور امي العبق في الصباحات البهيات النديات ... بخور يختلط بهمهماتها الخافتات وهي تتلو صلواتها والصبح طفل في مهد ... صينية الشاي باللبن المقنّن الذي يفوح عبيره الأخّاذ من مسافة كذا وكذا .... وملاياتها التي لكل واحدة منها مناسبتها وذكرياتها..... الموردات ديل لمن جاء ابوكن من الحج ... والمشغولات ديل لمن سافرنا عطبرة ... اما ملايات الكانون فحقات نجاح ( معز ).. وهكذاحالة التأهب الدايمة لضيف يأتي حين غرة ولم يخذلها قط ... لابد ان يأتي احدهم قريب او غريب كالقريب . امي التي يخطو قلبها قبل قدمها عشان يطايبك ويحضنك ... توبها المكوي ومكسّر .. صينيتها العامرة والشعيرية ام دهنا للكوع.... رنين جرس الباب ... السلام والمقالدة والتكرّف ... والعيون الملانة حب ... قهقهات تشق صمت لامكان له في بيت امي .. حنين ومحنة كغيمات تهمي بلا انقطاع سمعت صوت بطني ...فأنا علي لحمها منذ الصباح اعرف ما الذي يكون في إنتظاري من أكل .. مجرد تذكّره جعلني اشعر بالغثيان ... طعام غريب الملامح وبلا طعم.. اود ان آكل شيء حقيقي..إنطلقت لمطبخي الصغير ... وأخرجت عجين حامض احتفظ به ككنز في آخر رف ... وصاج أفتخر بامتلاكه .. شاهد علي كل ( خيابتي) الزمان الي ان اصبحت أجدع من عوّاسات سوق الشجرة المسكونات بالنضال في وجه الزمان الشين .. كِسرة ..عُست كم طَرَقة بسرعة البرق ... وحذاء البوت يضغط على أصبعي الكبير يُدميه وعملت أحلي ( عجنه) في ذلك الليل البارد الكئيب....طماطم . ...شمار وزيت سمسم وشوية كسبرة من التي كانت أمي تصر على إرسالهم مع كل قادم لي في هذا الصقيع مشفوعات بمحبتها ووصفاتها المدهشة لصناعة كل مالذ وطاب .... وتأكيدها الدائم أننا منحدرين من أسرة (مفراكها طاعم) .. لذا، من العار ان أشذ انا عن هذة القاعدة. جلست أنا وبناتي نحتفي بهذة العجنة ... البنات فرحوا أنو الله حلّاهم من الأكل المسيخ ... عجنة اطعم و احلي مايكون .. تشبّعك وترحمنك وتقوتك وتيقّنك وتطامن قلبك الشقّاهو الحنين. ديل نحنا السودانيين المعجونين بمحنة والمعمولين بجمال وببساطة ...السودانيين الخيّرين الطيبين .....محل مانمشي عاملين زي مجرى السيل يسده التراب ويغير تضاريسه الزمن بس خلي السيل يجي ... سيل يتدفق من مجرد هبوب ريح الذكرى من تالا الحبايب .. وينفتح المجرى بذات العنفوان والأزيز والتوهّج. هناك شيء حدث لهذة التركيبة الفريدة لذوي البشرة السمراء والقلوب التي تشبه الدبلان. كم مرة سألت نفسي ( كم لبثت) وانا أري أو اسمع اشياء لا تتسق وتلك الصورة الحبيبة الجميلة ... ردود أفعال لاتشبهنا ... لاحظت أنه صار بنا عنف لم أعهده فينا من قبل .. غِلظة وشراسة وإنفعال أهوج ... مؤخراً تداولت الوسائط الاجتماعية فيديو لحرامي لازال نُواحه يتردد في أذني وهو يستجدي الرحمة ممن قاموا بتعذيبه ... ظلوا يسومونه سوء العذاب لساعات يذبحون إنسانيته ويستحيون كرامته كبني آدم له ذات القلب والوجيب واللسان والانتماء ... وهؤلاء القوم إستمروا في فعلتهم تلك وبعضهم يضحك ويستعمل الفاظاً نابية أقبح من فعلة الحرامي نفسها متناسين تماماً ان هناك قانون يلجأون اليه وان هذة شريعة غاب بكل المقاييس. أسقطوا علي هذا الولد البائس كل إحباطهم وألمهم وزهجهم وقلة حيلتهم وإبتكروا وسيلة للانتقام منه لا علاقة لها لا بأخلاق ولا انسانية ولا نبل سوداني نعتز به ونسوق له .. تأرجحت ردود الأفعال في الأسافير .. منهم من ادانه ... ومنهم من تعامل مع هذا الحدث كأنه شيئ عادي، وان الطريقة التي عومل بها اللص معروفة وهو بالطبع يستاهلها وان التعذيب بالشطة معروف وقديم قدم (المحفضة)... لم يستهجن الناس الذين وقفوا او اتفرجوا .. ومن لم يستهجن هذة الفعلة النكراء من البالغين و (اذا كانوا راشدين ) اصلا موضوعهم منتهي والبقت بقت ولايجدي الحرث في البحر والدخلهم دخلهم.. ومصيرهم الي انقراض .... فكرت في الاطفال الذين كانوا حضورا لحظة التصوير ... الاطفال الممكن يكونوا قد شاهدوا الفيديو المصور والمتاح لاي شخص ... الاطفال اليافعين الذين ستتم تربيتهم علي ثقافة عنف كهذه ... وما فيه من عدم رحمة وعدم احترام للقانون حتي وان كان لنا راي سالب في ناسه ومؤسساته .... نفس جمهور الاطفال هؤلاء كانوا ايضا حضورا عندما تم جلد فتاة في ميدان عام والعسكري يلاحقها بالسوط وبقذي القول وهي تصرخ وتتلوّى وتستغيث ... (الجفلن خلهن ...أقرع الواقفات)....في رأيي هذا واحد من أجمل الأمثال التي تختصر الوقت والمجهود والتعب في شيء لافايدة منه والحث علي تكريس هذة الطاقة في شيء يأتي بثمرة ويكون له فائدة ويمكن علي الأقل تدارك الفشل في الواقفات ديل . الاطفال ديل هم الواقفات الذين نسقط عليهم الكتير من أخطائنا في التربية والنشأة ... نسقيهم في حاجات عجيبة وبنربي جواهم قبح لامتناهي ..قسوة لامبررة ...وعنف هو سيد الموقف وعدم إحترام للقانون ... وفي نفس الوقت تمر أحداث امامنا لانعيرها التفاتاً ولا نستنكرها ولا نحدث اطفالنا عنها ونتوارثها من جيل لآخر زي المرض الكعب ..