قادني الشوق إلى مسقط رأسي، الى تلك القرية النائية على منحنى النيل في الشمال.. وجدتهم مثلما توقعتُ، لم يتغيروا كثيراً.. حافظوا على رباطة جأشهم ضد النظام، لكن الظلط الجديد يحاصرهم من ناحية الشرق، ومن ناحية الغرب.. يقولون إنه وفي رمشة عين، فقدوا حيازاتهم لأراضي (كللرو)- وهي امتداد خرافي لأرض طينية في قلب الصحراء- لأن هناك قرار استثماري، بأيلولة الأراضي فوق الظلط لوحدة السدود..! وجدتهم (كمَا كُنْت)، ليسوا بأحسن حالاً مما كان عليه الحال في أيام صِبانا.. الصحراء تترصد بهم.. يلتحفون الأمنيات الحكومية الكاذبة، وينتظرون بصيص أمل في التنمية التي دخلت عليهم بالساحق والماحق، من نوافذ المستثمرين.. كان السفر قديماً بلواري السفنجة، وبالنيسانات..اليوم سائق البص فائق التكييف، يبدو حريصاً على تشنيف أسماعنا بلواعج المُغنيين الجدد..! دعهم يعبرون عن لسان الحال الذي غلب الغلاَّب، بتلك الأغنيات الباكية، عن مأساة: محمد أحمد يارِفاق..! وهو ذاك الشاب المسيكين، الذي (هجَّ) من البلد، بسبب عدم تسديده سلفية البنك..! وهيثم، الذي عشق أخته من الرِّضاعة..! وعوض ساري الليل، الذي خرج ولم يَعُدْ..! وعيوشة عيوشة،، تأكل من الكوشة..! مراثي لا أول لها ولا آخر، يسمعونها ويطربون لها، فهي عادية في هذا المكان، (الذي لم يترك فيه حر الشمس قتلاً لقاتل)..! اختفت في أيامهم الحزينة سريالية العشق عند ود حدّ الزين، فمن يتذكر تلك اللوحة (أنا إتوكرت في بلداً بناتا، بلا الخيول الجامحة فوق الرِّيح تَشَابي)..! عبرت سماء الرحيل، نقرشات طمبور محمد كرم الله، للقماري: (أنزِلي من فروعك مرة للساسَقْ فتر..آه يا قُمرية.. مافي عدالة، لي زولاً صبر)..!؟ لا شيء في الشمال الآن غير نبوءة حِميد (مرّة شافت في رؤاها، طيرة تاكُلْ في جَناها، حيطة تِتْمَطَّى، وتَفَلِّع، في قَفَا الزَّول الْبَنَاها)..! في طريق الشريان، لا أكثر من محطات القِّبانة ..لا أكثر من استهبال الدولة على مواطنيها ..لا جديد غير أعمدة الكهرباء الراحلة من سد مروي الى الخرطوم، وحيازات رأس المال الأجنبي لمزارع شاسعة في صحراء بيوضة ..القيزان في ابو ضلوع والتمتام لوثتها قوارير المشروبات الفارغة ..الخلاء يعج بالبلاستيك.. روث المدنية، على جانبي طريق الأسفلت الضيق..! الخرطوم أصبحت قريبة من جناين البلح، لكن آثار النعمة التي يقولون إنها تغمرهم، تظهر كاليقين- فقط- على شاشات التلفزيون..! سألتهم السؤال التقليدي، الذي لا شك يسأله كل قادم الى تلك الديار: (أخبار التَمُر كيف، اليومين ديل)..!؟ لكنهم يصدونك بسؤال استنكاري جاهز: (ياتو تَمُرْ)..؟ يسألونك بخشونة، حين تهبش البلح، الذي هو أغلى المقتنيات في صحراء أعمارهم، ومن أجله يتماسخون، كما الرباطاب، إذا ما نازعتهم الحكومة في الخيار المحلي.. لا أدري من أي معين في هذه الصحراء نبع القفشات..! قال لي ابن عمي و صديق الصبا، نقد الله ساتي ماجد، وهو رجل عِندو،(كبير الجمل).. قال لي: (تقصُدْ ياتو تمُر في التمور..؟ أكان قاصد البيشربوهو، عليك أمان الله ناس الحكومة عاملين فيها صحابة وخُلفاء راشدين، ضيَّقوا علينا الوسِيعى.. وأكان قاصد التَمُر البياكلوهو، وين السُنون البياكلو بيها..؟ وإن سألت عن أسعارو في السوق، تراهو دقَّ الدلجة، ومافي (شيتاً) جايب لينا السُكري والضغِط غير الموضوع دا)..! تفرّست في الوجوه، لم يتبقَ في القرية غير العواجيز.. هاجر غالبية الشباب، لكنهم يبعثون كل شهر من بلدانهم البعيدة ما يكفي من عُملة حُرة، تصرفها اللجان الشعبية في حفر وتجهيز القبور.. دخلت الكهرباء، لكن الثلاجة تكتنز بالأدوية..لا قيمة للوقت هنا.. إنهم يحسبون ساعات اليوم بمواعيد حبوب تسكين أوجاع المفاصل..!