مرة أخرى، تجيء الأحداث والتطورات الدرامية التي تشهدها ساحل العاج لتعزز مقولات القائلين بأن الديموقراطية ليست «صنعة» أفريقية أو عربية، إنما هي بضاعة «مستوردة ومغشوشة» كما يصفها أعداؤها من شدة بغضهم وكراهيتهم لها وللحرية، لشعوب يرون أنها لم تبلغ الرشد حتى تتمتع بحق الاختيار والتداول السلمي للسلطة. فقد شهدت نهاية الأسبوع في أبيدجان إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية التي أكدت فوز مرشح الرئاسة الحسن واتارا، لكن وفي سرعة البرق التأم المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) ليلغي فوز الحسن واتارا زعيم المعارضة، و«يهدي الفوز» للرئيس المنتهية ولايته لوران قباقبو، والذي ظل يحكم البلاد لعقد كامل من الزمان، وليضع الأممالمتحدة وأمينها العام بان كي مون في حرج بالغ بعد أن اعترف بالنتيجة وهنأ واتارا بفوزه المستحق الذي أعلنته اللجنة العليا للانتخابات، وليصر في تصريحات لاحقة على رفضه (قرار) المجلس الدستوري الذي يمنح قباقبو الرئاسة في «انقلاب صريح» على العملية الديمقراطية، أعلنت القوات المسلحة على اثره إغلاق حدود البلاد براً وبحراً وجواً. كان الهدف الأول من اللجوء للانتخابات هو وضع حد لشبح الحرب الأهلية التي ضربت البلاد عام 2002، تلك الحرب التي أدت إلى انفصال الشمال ذي الأغلبية المسلمة عن الجنوب الذي يتألف غالبية سكانه من المسيحيين، فخاض قباقبو الرئيس المنتهية ولايته الانتخابات في مواجهة الحسن واتارا، الذي سبق أن تولى رئاسة الحكومة كما شغل منصباً رفيعاً في صندوق النقد الدولي، ففاز الأخير بنسبة 54% من الأصوات، لكن المجلس الدستوري الذي اجتمع على عجل والذي يرأسه بول ياووندي صديق قباقبو وحليفه ألغى الأصوات في سبع مناطق تقع كلها في معاقل نفوذ واتارا بشمال البلاد، الذي كان بؤرة التمرد والصدام في الحرب الأهلية الأخيرة، وأعلن المجلس أن قباقبو حصل على 51.5% من أصوات المقترعين، مؤيداً ذريعة وحجة قباقبو بأن أنصاره مُنعوا من التصويت في العديد من المناطق الشمالية، وقال المجلس إن النتائج في تلك المناطق السبع ألغيت نتيجةً لمخالفات صارخة «عابت صدق الاقتراع». رفض المجلس الدستوري لنتائج الانتخابات، بناه أيضاً على القول بأن لجنة الانتخابات ليس لها الحق في إعلان فائز، بالنظر إلى أنها لم تلتزم بإعلان الأرقام المتعلقة بالانتخابات الرئاسية في الموعد النهائي، الذي حددته وهو يوم «الأربعاء»، بدلاً من «الخميس»، وما أبأسها من حُجة! لم يقتصر ما فعله نظام قباقبو ومن خلفه جيش «كوت ديفوار» على إغلاق الحدود، بل مضى إلى حجب كل ترددات البث التلفزيوني والإذاعي الأجنبي، في محاولة للتعتيم على اعتراف العالم والأممالمتحدة بشرعية واتارا الفائز بالانتخابات وفق النتائج التي أعلنتها اللجنة العليا. ودعا واتارا برغم ذلك المواطنين إلى التزام الهدوء، لكنه أعلن في الاعتراف بالنتيجة واحترامها، من أجل السماح لكوت ديفوار بالمضي نحو مستقبل سلمي وديموقراطي وتجاوز سنوات الصراع الطويلة والفرص الضائعة. وقال إن «المجتمع الدولي سيحاسب أولئك الذين يعملون على عرقلة الديمقراطية وإرادة الناخبين على أفعالهم». كلام جميل وتهديد صارم هذا الذي قال به أوباما، لكن ما نخشاه حقاً أن يتحول إلى مجرد تهويش و«إنشاء».. فمتى رأينا أن المجتمع الدولي أو الولاياتالمتحدة أو فرنسا أو غيرها تقف بحزم لمساندة إرادة الشعوب في مواجهة مغتصبي السلطة، فهل يا ترى ستكون ساحل العاج «كوت ديفوار» استثناء أم أننا سنرى تسويات تلتف على تلك الإرادة الشعبية، وتُرضي طموحات النخب في السلطة والثروة، كما حدث في كينيا وموريتانيا وغيرها من الدول الأفريقية، ليعود «المجتمع الدولي» من ثم إلى الاعتراف بتلك النخب والتعامل معها بمنطق «الأمر الواقع». لكن البعد الآخر الذي كشفت عنه الانتخابات الرئاسية الأخيرة في ساحل العاج هو أن التوترات وغياب الثقة ومشاعر العداء لا تزال هناك بين الشمال والجنوب، وأن الحرب التي وضعت أوزارها على الأرض لا تزال تعتمل في النفوس، ويواجه كلا الرجلين اتهامات بتحريض أنصارهما من خلال تبادل الاتهامات، تماماً كما يحدث بين شمالنا وجنوبنا بين أنصار المؤتمر الوطني وأنصار الحركة الشعبية، فالأزمة هناك أيضاً «شمال-جنوب، ومسلمون ومسيحيون»، وتلك أوجه شبه تتعدد في الكثير من البلاد الأفريقية، مصر والسودان ونيجيريا واثيوبيا وأريتريا على سبيل المثال. كما برزت في صورة الأحداث المفوضية السامية لحقوق الإنسان ورئيستها نافي بيلاري والمحكمة الجنائية الدولية، وقالتا إنهما تتابعان الموقف عن كثب وحذرتا الزعماء في ساحل العاج من أنه قد تتم محاسبتهم على أي أعمال عنف تتم من جانب مؤيديهم. تعود أزمة ساحل العاج المستمرة إلى العام (2002)، عندما نجا الرئيس قباقبو (65 سنة) الأستاذ السابق للتاريخ الذي تولى السلطة في أعقاب مظاهرات عنيفة في الانتخابات الرئاسية عام (2000) من محاولة انقلاب. وقاد الانقلاب الفاشل البلاد إلى نشوب حرب أهلية قصيرة تسببت في تقسيم البلاد إلى جنوب يخضع لسيطرة الحكومة وتقطنه الأغلبية المسيحية وشمال يسيطر عليه المتمردون وأغلبهم من المسلمين، وجرى تأجيل الانتخابات التي استهدفت توحيد البلاد ست مرات منذ العام (2005)، عندما انتهت ولاية قباقبو رسمياً. لكن قباقبو ظل متمسكاً بالسلطة حتى إبرام اتفاق سلام في العام (2007) تم بموجبه إشراك المتمردين في الحكومة وإجراء انتخابات رئاسية توحد البلاد، تلك الانتخابات التي انتهت إلى «فوز» مرشحيْن بالرئاسة في وقت واحد، لتصبح كوت ديفوار «مركباً بريسين» يتهددها الغرق في أي لحظة. الوقت ذاته أنه «لم يقبل قرار المجلس الدستوري، وأنه يعتبر نفسه الرئيس الجديد لكوت ديفوار»، لكن التقارير الواردة تتحدث عن احتجاجات عامة تصدرها الشباب بشوارع العاصمة الاقتصادية أبيدجان، حيث قاموا بالتظاهر وإلقاء الحجارة وإحراق الإطارات، مما يعزز الاعتقاد بإمكانية تجدد الحرب. رئيس بعثة الأممالمتحدة في ساحل العاج واي جيه شوي، وهي البعثة التي تشكلت هناك منذ الحرب الأهلية أيَّد ما أعلنته لجنة الانتخابات، فيما يعتبر مقدمة لما ينتظر أن يكون مصادقة دولية على فوز واتارا المستحق، وقال تشوي إن «النتائج التي أعلنتها اللجنة الانتخابية في الثاني من ديسمبر لم تتغير، وهذا يؤكد أن المرشح الحسن واتارا قد كسب الانتخابات»، وبناء على ذلك أيَّد كي مون قرار ممثله الخاص في ساحل العاج وهنأ واتارا، وحثه كما قال على «العمل نحو تحقيق السلام الدائم والاستقرار والمصالحة في كوت ديفوار»، ودعت فرنسا المستعمر السابق لساحل العاج-ومعها الولاياتالمتحدة قباقبو وواتار إلى قبول نتائج الانتخابات، بينما حذر مجلس الأمن في وقت سابق أيضاً من أنه «سوف يتخذ إجراءات مناسبة ضد أي شخص يحاول عرقلة سير العملية الانتخابية»، وطالب الرئيس الأمريكي باراك أوباما من جانبه باحترام نتائج الانتخابات وهنأ واتارا، مشيراً إلى تأكيد الأممالمتحدة ولجنة الانتخابات والمراقبين الدوليين لنتيجة الانتخابات، وقال أوباما: «كوت ديفوار الآن على مفترق الطرق» وحث جميع الأطراف، بما في ذلك الرئيس الحالي لوران قباقبو على