يا خسارة.. وأكاد لا أصدق عيوني.. وأنا أطالع في دهشة.. بل في حزن مقيم... كلمات هي زفرات تذيب حتى الأسفلت من صدر أحد أعمدة ركائز وصناع.. إذاعة ساهرون المترفة الوسيمة.. هو يحكي في حزن وأسى كيف أن ساهرون قد أطفأت مصابيحهم مصباحاً مصباحاً.. وقطفت من حدائقها الباسقة واليانعة.. أزهاراً ملونة كانت تضوع عطراً في حدائق ورياض ساهرون.. عجباً للذين وهبوا ساهرون باذخ اللوحات وبهيج الأمسيات وباهر النهارات.. هم الذين ردموا الهوة الواسعة بين الأمل والعمل.. بين الممكن والمستحيل.. بين الأحلام والأماني والواقع.. هم الذين طبعوا الحياة بين الشرطة والمواطنين.. هم الذين أبرزوا الوجه الآخر للشرطة.. هم الذين أكدوا للناس والدنيا.. والوطن والمواطنين أن الشرطة رغم دورها العظيم والنبيل في إشاعة الأمن والاطمئنان هي أيضاً حقول من الإبداع وسنابل من أكسير الحياة.. هي روعة الوتر وبهجة الناي وانسياب تغاريد الكمنجات.. هي الصوالين المترفة التي استضافت فيها الشرطة في قاعتها الكبرى والفخيمة إذاعة ساهرون نجوماً غالية.. من شعراء وأدباء ومبدعين وكواكب إشراف وأفلاك إبهاج. وفجأة من غير عتاب أو لوم تجد كوكبة من الشباب الذين قامت (ساهرون) على أكتفاهم الفارعة وأعناقهم الفولاذية تلك الإذاعة المترفة الوسيمة.. فجأة يجدون ورقة على (البورد) تعلن هؤلاء وتعلن كل أسرة ساهرون إنهاء خدماتهم وكأنهم بلغوا من العمر عتياً.. هم شباب في شرخ الشباب.. وحتى إن كان اللون الأبيض الفضي قد طرد كل سبيبة سوداء في رؤوسهم .. حتى إن كان الأمر كذلك وهو لم يكن أبداً.. فالإبداع لا عمر له ولا انتهاء فيه.. يظل المبدع مبدعاً حتى لو تقوس ظهره. لا شيء أعرفه عن هذه الكوكبة كثيراً.. أنا لست سوى متلقي أحتضن (الراديو) وأتوقف عند (ساهرون) وأهز الموجه ليساقط عليّ مطر الإبداع حلالاً روياً.. الذي أعرفه أن زهير بانقا.. ذاك المبدع الذي حمل ساهرون بين تجاويف ضلوعه و(دساها) في آخر بوصة من سويداء قلبه ورواها من نهر دم وريده.. ووهبها الممكن والمستحيل من روحه.. عرفت أن زهير بانقا على رأس هؤلاء الذين أعلنت ساهرون عدم تجديد عقودهم. في صدق أقول.. إن ساهرون قد خسرت خسارة فادحة وهي تطفئ أكثر مصابيحها ضياءً وإبهاراً.. وفي صدق أقول إن هذا الفتى قد أمسك بعصا المايسترو في مهارة وإبداع وهو يرسم بألوان الطيف قوس قزح خرائط البرامج الإذاعية لتخرج إلى أثير الدنيا وهي تزهو وتزهر وتزدهي.. سيدي مدير عام الشرطة.. وسيدي نائب مدير الشرطة.. أعلموا أن بارجة ساهرون الآن تبحر ولكن بعد أن أمرت كابينته قيادة البارجة أن يترجل منها أكفأ وأنبل القباطنة وما زال الجرح قابلاً للرتق.