{ وللمساء في الخرطوم جمال خاص وأبعاد مختلفة عن المساء في أي مدينة أخرى، وهذا حتماً لأن الخرطوم تشغل حيزاً في الوجدان وفقاً لانتمائنا لها كعاصمة لا يعنينا كثيراً أن تكون حضارية بقدر ما يعنينا أهلها وسكانها الأعزاء. { وفي كل مساء تسنح لك الفرصة لتكتشف شيئاً جديداً يزيده ألقاً وصدقاً، وهكذا كان حالي وأنا أجلس خلف مايكرفون إذاعة «ساهرون» صوت الشرطة السودانية لأتسامر عبر «مساءات الخرطوم» مع ما يسترو الإذاعة «زهير بانقا» والشاعرة الأريبة المدهشة «ابتهال مصطفى».. وقد كان ذلك المساء حافلاً بمختلف المشاعر والمواضيع والانفعالات، وكنت الحلقة الأضعف لكوني بين طرفي رحى لهما تاريخ طويل مع المايكرفون، لا تتلعثم شفاههما بالكلام ولا يحتاران طويلاً في انتقاء العبارات المنمّقة الواضحة التي تصل إلى الهدف تماماً وتدخل قلب المستمع مباشرة بلا تردد. { وأحسب أن للعمل الإذاعي سحر خاص لا يتوفر في أي وسيلة إعلامية أخرى، لأنك تكون حينها - كما قال «زهير بانقا»- حراً كعصفور طليق يغرِّد كيفما شاء دون أن ينتابك توتُُّر بفعل الزخم البشري لمختلف الكوادر التي تشاركك في إخراج أي عمل إعلامي آخر إلى النور، ففي الإذاعة تكون أنت والمايكرفون وإحساسك الخاص وقدرتك الكاملة على الإبداع براحة وتلقائية عذبة، وربما هذا هو السر وراء قناعتي المطلقة التي شاركتني فيها الأستاذة ابتهال بأن «زهير الطيب بانقا» تكون له نكهة خاصة وهو يعزف ألحانة كمايسترو متمكن خلف مايكرفون الإذاعة. وللعلم فهو خلف المايكرفون يجلس مغمض العينين ويكاد ينسى وجود الضيوف من حوله لا يحمل وريقة ولا قلماً، ويستغرق تماماً في حالة من الانغماس في ذاكرته الممتلئة بالأشعار الخالدة والإرث الثقافي الكبير. { وحين يخرج صوته عميقاً هادئاً معلناً عن «مساءات الخرطوم» يبدأ مشواراً مسائياً جميلاً وكأنك تمضي معه متجولاً في ليلة مقمرة بنسمات باردة وأنت تجوب شارع النيل جيئة وذهاباً ومزاجك في أقصى حالات اعتداله. { سهرت يومها مع «ساهرون» حتى انقضى الليل هاتفني مستمعون مميزون ملأوني زهواً وسعادة وأطربوني بمدحهم وحرصهم على المتابعة، فلم تكن تلك السهرة مجرد سهرة أو استضافة إذاعية كغيرها، فإلى جانب (زهير بانقا) كمذيع ومُعد استثنائي صنع لنفسه اسماً وتاريخاً مميّزاً بمجهوده الخاص وطموحه الكبير حتى أصبح (ماركة نجاح مسجلة) تسعى خلفه العديد من الفضائيات الوليدة لما يميزه من حضور وما اكتسبه من محبة الجمهور، إلى جانب ذلك أسعدني القدر بالتعرّف إلى «ابتهال مصطفى» كمبدعة في مقتبل العمر تكتب شعراً مختلفاً لا يشبه سواه وتستخدم عبارات لم أسمع أبلغ منها من قبل إلى جانب بشاشتها وجمال روحها. ولا يجب أن ننسى المبدع «أسامة جمعة» في الرؤى الإخراجية والمونتاج وهو الاسم المعروف في دنيا العمل الإذاعي والرجل صاحب الموهبة المميزة الذي نجحت «ساهرون» بذكاء في ضمه لأسرتها تأكيداً على أن «ساهرون» ذلك الصوت الآمن يستحق الإصغاء في كل مكان وزمان لا سيما «مساءات الخرطوم». { تلويح: يا جمال النيل... والخرطوم بالليل عبر الأثير.