وتضاء كل الأنوار.. كهارب تشع من مصابيح غاية في الإبهار.. وثريات معلقة.. في أناقة.. على سقف القاعة.. وأضواء تشع من أوجه ذاك الحضور الوسيم.. وتبدأ الليلة.. وأين أنت يا كامل عبد الماجد.. يا سيد الاسم.. وغزالك الشارد ذاك تائه الخصل.. ليتك كنت معنا.. لتشهد على ذاك الزمن الزاهي.. الذي بكيت عليه طويلاً.. طويلاً.. ها هو الزمن الزاهي.. يعود.. من تحت الرماد.. من تحت سنابك خيول التتر التي اجتاحت.. فضاءنا الجميل.. ها هو جنكيز خان يتراجع.. مهزوماً مدحوراً.. ها هي السلسلة الماسية التي قطع أوصالها.. ذاك الزمان الرديء.. تعود.. منظومة.. كالنجوم.. ولكن في كل نظام.. وها هي أبواب القاعة موصدة.. أمام.. غزو حشرات.. وحشرجة أصوات.. وضوضاء زعيق.. وسيل كلمات منحطة.. وها هي الفرقة الماسية.. الفنانة.. تركل في قسوة.. «الأورغن» الذي.. كم أرهقنا.. وأزعجنا وأتعبنا.. وهو قاسم مشترك.. في كل حفل.. في كل عرس في كل جمع.. ليغطي.. على بحة أصوات مغنين.. طفحوا كما الطرور.. في مجرى نهر غنائنا الجميل.. ويبدأ الحفل.. ويأتي حسن عطية.. ذاك الأنيق «اللبيس».. يأتي في كامل هندامه.. الأبيض.. الأكثر بياضاً من شخب الحليب.. كان يحلق بجناحين.. رائعين.. في سماء القاعة.. وها نحن نردد مع الاوركسترا ومعه.. سراً.. خداري.. وها هو حسن عطيه.. يستعطف المحبوب.. وأظهر أمام عيوني.. لا تبقى متواري.. أنا جارك البحبك أوعك تخون جواري.. ويأتي.. إبراهيم عوض.. وسيم الطلعة.. المبتسم أبداً.. حتى في ظلال الجراح والرماح.. إنه لا يقدم.. أغنية.. إنه.. يلقي دروساً.. للأحبة.. للثنائيات.. للشباب.. وتاني ما تقول انتهينا.. بتنهي جيل ينظر إلينا.. ده باني آماله وطموحه ومعتمد أبداً علينا.. نحن قلب الدنيا ديا.. نحن عز الدنيا بينا.. تاني ما تقول انتهينا.. ثم نصمت.. ثم نخشع.. ثم يلف القاعة.. ذاك الصمت الرهيب.. فقد حضر النقيب.. يلفه الوقار.. يتقدمه الجلال.. ثم.. يهطل المطر.. وحياتي حياتي.. أحبك أنت كحبي لذاتي.. وينبعث من مرقده.. ذاك الذي غادرنا.. في ريعان.. موسمه الأخضر.. البديع.. الجاد حد الصرامة.. الفنان حد التخمة.. المبدع حد الدهشة.. جمعة جابر.. يغرق كل القاعة في بحيرة من اللحن البديع.. من الطرب الأصيل.. من الصدح الجميل.. وتتوالى.. مواكب الأفلاك.. لا يرحل.. نجم.. إلا وأضاء القاعة.. كوكب دري لامع.. وتنفجر قارورة اللحن الرفيع.. أحمد الجابري.. ابتسامة بعرض.. حديقة لا تحدّها.. حدود.. وألحان.. لا تعرف.. الفناء.. والاندثار.. فقد ولدت.. لتكتب في لوح الخلود.. وسحائب الرضوان.. تغشى مرقدك الطاهر.. يا تاج رؤوسنا.. يا التاج مصطفى.. وها هو التاريخ ينصفك يا من وهبت الوطن.. المعجزة.. الملحمة.. المدهشة.. إنصاف.. ويمر في إعجاز.. الكاشف.. يعود بنا الرجل.. إلى تلك الأيام الزاهيات.. إلى مراتع ذكرياتنا ومواضع تذكاراتنا.. يعود بنا.. إلى المؤانسة.. و«الونسة».. الحالمة.. وأذكر جلوسنا على الربى.. نتساقى كاسات الهوى.. ثم فجأة نتذكر فداحة خطبنا.. وخسارة وطننا.. وترمل.. غنائنا.. ورحيل ألحاننا.. عندما.. تعزف.. الاوركسترا.. مقطوعة.. لبرعي محمد دفع الله.. هذا العبقري.. الرهيب.. هو الذي.. دفع بعبد العزيز.. حتى أجلسه ملكاً متوجاً على قلوبنا.. نعم.. لقد فقدنا كنزاً وقلعة.. من الإبداع.. ولكن بعد أن ترك.. في كل قلب نغمة.. في كل روح.. نبضة.. أما الوقور المثابر.. الشفيف.. فقد.. كرمته الفرقة.. وهي.. تسمعنا.. كلماته التي لا تعرف حدوداً ولا وطناً.. وحبيبي ظمئت روحي وحنت للتلاقي.. وفجأة.. تشتعل القاعة.. وفجأة.. نعلم أن مستودع الأشعار والكلمات والأغاني.. حضوراً بيننا.. فجأة.. يعلن المذيع إن «بازرعة».. يتصدر جمعنا.. ثم.. يأتي «الملك» عثمان حسين.. وتأتي «شجن».. واللحن ينساب كما الماء الفضي على الجدول.. وفجأة..تصل الفرقة إلى.. ذاك الجزء من الأغنية.. الذي.. يهز حتى الجبال الراسيات.. ورغم أن الحفل.. كان موسيقياً صرفاً.. بلا ترديد.. حرف من أغنية.. إلا أن القاعة كلها.. من أكبر معمر فيها.. وهو يخطو نحو التسعين.. وحتى أصغر فتاة لم تبلغ العشرين.. تردد في صوت يهز الدنيا.. لكني أخشى عليهو من غدر الليالي.. أخشى الأماني تشيب وعشنا يبقى خالي.. وجاء دور الدموع.. النازفة.. بل الهاطلة.. بل النائحة.. وما أن.. بدأت.. الموسيقى.. وهي تعزف.. أغنية أبو داؤود.. يا حليلم دوام بطراهم.. إلا واجتاحت كوامن الحزن.. والشجن وكست ظلال الفراق.. وجه كريمة أبو داؤود.. ثم راحت في بكاء.. ونشيج.. وهي ترتمي في صدر.. بشير عباس.. الذي اختلطت دموعه بدموعها.. فكان.. صيوان عزاء وساهمت دموع الحضور في العزاء.. واعلمي.. يا بنيتي.. إن أباك.. لم يرحل.. وكيف يرحل..من وهبنا كل هذا الجمال.. وكيف يرحل.. من نلتقيه صبحاً ومساء.. وكيف يرحل من عطر أماسينا.. وجمّل ليالينا.. وكسى نهاراتنا.. جمالاً.. وإبهاراً.. وإمتاعاً.. صالح مرسي