قال الخبراء: سافروا ففي الأسفار خمس فوائد.. من بينها.. تفريج هم واكتساب معيشة ونيل علم وصحبة ماجد.. وما من أحد يمشي في مناكب الأرض إلا وأدرك أن الله قد أحاط بكل شيء علماً.. حتى أن الأجواء والمياه وتقاطيع وركائز الأرض من جبل وشجر ومخلوقات، كل هذه يجد أحدكم أن الله قد أطلقها وكورها وأظلمها وأضاءها لتعاقب الإنس والجان.. (فبأي آلاء ربكما تكذبان).. وهو الذي علم القرآن.. سقت هذا لأشير إلى أن الآية التي تقول.. «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور..»- كما أشرت مراراً- هذه الحكمة بمعانيها المترادفة تدل على الحراك والتطواف في أرجاء هذه المعمورة.. وبهذا يتبادر للناشط في الأسفار والمعرفة والانتقال.. يتبادر إليه أن الوسيلة التي تمكنه من ذلك جواً أو أرضاً أو بحراً.. ويضاف لذلك الناقل والواصل الحديث بالصوت والصورة والمعنى.. هو (الجوال) الصغير.. كاسح الأبعاد ومختصر الأزمان.. تلك الوسيلة هي (المبادرة).. وهنا نحن في السودان.. وضعنا الإستراتيجية (ربع القرنية).. فصارت ولاياتنا ومحلياتنا تتنافس في فعل الخيرات.. وما من مبادرة أظهر من (خرائط) الطرق التي تصل بين الناس.. حتى لا تنقطع المنافع أو تصعب بينهم.. ولمثل هذا ربطت بلدان بعضها ببعض.. فإن أردت أنت أن تترك (ثريتك) أو (جوالك) الصغير.. وتصل همك المضى أو تصل رحمك التي أشار اإليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه القدسي «الرحم من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته»، فصرنا نجد الراحة والفأل في فيافٍ كان ينسج لنا عنكبوتها خيوط الفناء.. والخوف.. وضياع الوقت.. لمثل هذا وبمثله انتشرت الجماعات والوفود.. غطى المسافرون أرضاً وبحراً.. غطوا المستحيل الذي لم يكن لعهد قريب يحلم به أحد.. فكنا نحن (نفراً) من تلكم المبادرات.. خرجنا من(الخرطوم) أم (المدائن) الساعة(السابعة) عند شروق الشمس.. نريد تلمس مجريات تسجيل إخواننا الجنوبيين.. لتقرير مصيرهم.. هم.. هل يبقى السودان علماً واحداً أو يتجزأ لمتجاورين اثنين.. تنطبق عليهما لوائح حسن الجوار.. وإن تناكفا تدخلت في شؤونهما الداخلية جداً.. دول التدخل والموت الزؤام.. فيحكمون بهواهم على من يريدون إذلاله وحيازة (مياهه) وموارده الأخرى.. خرجنا لجنوب كردفان في قطاعها الأوسط من مدينة(الدلنج) شمالاً حتى(تلودي) جنوباً.. وكان وفدنا بزعامة وزيرة الدولة للاتصالات(تريزا سرسيو إيرو) من جنوب السودان.. وهي من حزب(سانو).. ومعنا ابن أختها جغرافياً(رضوان عمر البشاري) الذي يتكلم بلهجة(أمه)من «دينكا رمبيك».. وبلغة (أبيه) من عرب (المجلد).. وكان الفصحاء في اللغة المشتركة وهي العربية.. هما(جلال تاور) و«تريزا سرسيو إيرو».. واحسب أنكم ستعجبون إذا تحدثت إليكم بالفصحى كل من الأخت (تابيتا بطرس شوكاي) من جبال النوبة.. و(تريزا) من جنوب السودان.. وآخر من (الفولة).. وياهو ده السودان.. ولمثل هذا سنعمل (سوا.. سوا) لنتفادى جوائح الطريق.. «وإيد على إيد تجدع بعيد»- كما تقولون- فإن كان الهم الأول لهذه القافلة الوطنية هو التبصير والتفسير لمسارات التسجيل لتقرير المصير.. إلا أننا كنا نراقب ونرصد ونقارن بين أمسنا ويومنا هذا.. ونشير مترقبين (لغدٍ) فهو آت لا محالة.. وتلفتنا وتنبهنا من حين إلى حين سرعة الدواب التي نركبها.. وهي السيارات.. التي صرنا نصنعها في بعض مصانعنا بضواحي الخرطوم.. بتزكية من(الصين) و(كوريا) و(ماليزيا) و(ألمانيا).. وقد مهدنا لها الطريق.. واترك لكم- قرائي الأعزاء- خرائط الطرق الدائرية والهوائية والبينية.. ودواخل المدن وبعض القرى.. أما الإستراتيجية (أي الطرق).. التي ترسي ركائز الطمأنينة والأمن كطريق «الأبيض/الدلنج/ كادوقلي/ تلودي/ كالوقي/أبوجبيهة/ رشاد/ العباسية/ أم روابة/ الأبيض»- فإنه دائري- وسياحي.. ثم هاك أنت أيضاً طريق «الخرطوم/ ربك/ الجبلين/ الرنك/ملكال..».. وآخر مهم هو «النهود/ودبنده/ جبال بروش/ أم كدادة/الفاشر/ نيالا/ الخرطوم..».. كما يتحرك الآن طريق «دنقلا/ السليم/أرقو/المحس/حلفا دغيم..».. وطرق أخرى بالشرق.. يجتهد فيها الناشط الإستراتيجي (إيلا).. وهنا نتوقف عند محطة تسجيل الطرق.. وهي (حاوية) فخمة ضخمة.. نريد فيها ومنها بعد قليل أن نعي حكمة الأمير (عمر بن الخطاب) في تلك القرون المتقدمة المبادرة.. حيث أقر مبادرات نادرة في تلك العصور.. وأثبت أنه إن أمد الله في عمره سيسافر ويقضي في كل عمالة (ولاية) شهراً (كاملاً) مع (واليها) ليرى ويتفقد ويعلم ويوجه.. ثم من مبادراته أنه سيمهد ويصلح الطريق حتى (للدابة) لكي لا يُسأل يوماً.. لماذا لم يسفلت طريق «جوبا/ تقلة/ خور انجليز/ توريت..».. والآخر إلى (نمولي) من (جوبا).. وعلى هذا المنوال.. وتفقداً للتسجيل.. سلكنا طريقاً آخر من (كادوقلي) إلى (تلودي) جنوباً.. وقد كنت يوماً أقطع الطريق (لتلودي) من جهة (الريكة) داخلاً إليه من الاتجاه الغربي.. من حيث اصطفاف أشجار التبلدي الضخمة.. وكنا نستغرق (ثلاث) ساعات.. أما خريفاً فمنذ (يوليو) يتوقف الوصول إلى (تلودي) حتى (أكتوبر) نهاية توقف الأمطار.. أما اليوم وقد شهد وفدنا هذا أنه يخرج من مدينة (كادوقلي) إلى قرية (الحمرة).. ثم (أم دورين).. ثم (كوراك) و(الدليباية).. ثم (التمداية وطاطا) و(خور الأزرق) إلى (تلودي) من اتجاه الشمال.. وكان هذا الطريق والمتلاحقات الجبلية والوديان والطبيعة الخلابة.. كان منقطعاً ومنبتاً طيلة أيام التفلت والاعتداءات الأمنية.. وكانت المطاحنات لا تترك أحداً يصله أبداً.. فوجدنا نحن اليوم الآليات والعزائم والتعاون على رصفه تمهيداً للأسفلت.. حيث تنشط فيه شركة (دان فوديو) الوطنية.. وشركة (كير) وشركة (منقا).. يراقب كل ذلك الوالي الناشط (أحمد هارون) بإشراف ميداني معتمدي (تلودي) و(كادوقلي).. فأدينا صلاة العصر بقرية (التمداية وطاطا).. حيث هيأ لنا المواطنون الأبسطة للصلاة.. وقد بهرنا نشاط الآليات وعزيمة الرجال.. وهم يأتون من كل حدب وصوب.. ليمهدوا الطريق الأمني والتنموي هذا.. ولتصبح «طاطا» الأزرق مثل «طاطا» عندنا هنا في (السامراب) ببحري.. وهي (بقالة ومطعم وحلويات) يديره إخوة (مصريون).. فابشروا يا أهل «طاطا» الجبل.