الآن، وبعد أن توصل شريكا حكومة الوحدة الوطنية إلى اتفاق «جزئي» على بعض القوانين، وتحديداً قوانين الاستفتاء والمشورة الشعبية واستفتاء أبيي، وكلها قوانين تقع حصرياً في صميم اهتمامات الحركة الشعبية، الأمر الذي ينزع بعض صواعق التفجير في العلاقة المأزومة بين شريكي الحكم، و (ربما)، ربما يمهد الطريق أمام قطار الوحدة الوطنية ليتحرك بأمان على طريق الإجماع الوطني المرجو، والكفيل بإنتاج حالة من الاستقرار تقلل من مخاطر انزلاق البلاد إلى فوضى مدمرة و «غير خلاقة» تصاحب الانتخابات الرئاسية والتشريعية والولائية المنتظرة، انتخابات «امتحان» «يُكرم» الوطن فيها إذا كانت حرة ونزيهة وعادلة أو «يهان» إذا لم تكن كذلك. هذا الاتفاق «الجزئي» بين الشريكين، هو «جزء» من الحل لأزمة الوحدة الوطنية التي تشهدها البلاد، وهو اتفاق أملته «علاقة العمل» بين شريكي الحكم الكبيرين - المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان - علاقة عمل فرضتها نصوص اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) بين فريقين متحاربين يتبنيان مشروعين سياسيين متعارضين، قبِلا أن يعملا معاً «لفترة انتقالية» معلومة وفق جدول زمني واستحقاقات محددة في مجالي السلطة والثروة، إلى حين قيام الانتخابات ومن ثم الاستفتاء على تقرير المصير، لذلك لم أكن أستغرب أو أندهش مع «المستغربين والمندهشين» لما يقع بين كل حين وآخر من تنافر وتعارض وتشاكس بين «شريكي حكم الضرورة». أولئك المستغربون والمندهشون الذين ما فتئوا يلومون الحركة الشعبية على تصرفاتها المزاوجة بين شراكتها في الحكم ومشاركتها في احتجاجات المعارضة سواء في البرلمان أو الشارع، ويتحدثون عن أنها تضع رِجلاً في مركب الحكومة وأخرى في مركب المعارضة، ويتخذون من المثل القائل «ركاب سرجين وقيع» برهاناً على فشلها واضطراب أدائها السياسي، وكانوا يرجون أن تضع في إحدى أذنيها «عجينة» وفي الأخرى «طينة»، أو «تقبض قبيضَه وتحمد سِيده» على قول المثل بمجرد اعتلائها «سرج الحكومة»، ناسين أن أمر الحكم كله الآن «انتقالي» ومؤقت، مثلهم مثل أولئك الحاكمين من الحزب الشريك الذين ما فتئوا يراهنون علناً على أن الاتفاق مع «الحركة» على ما تريده في القوانين المتصلة بالشأن الجنوبي، كفيل بفرز «كومها» من «كيمان المعارضة» وترك الأحزاب الأخرى «للموت» كالسمك الذي فاجأه انحسار المياه والجفاف، وكل ذلك يدلُّ على قراءة مبتسرة إن لم تكن ساذجة لمكونات الخريطة السياسية السودانية ومدخلاتها ونتوءاتها. نعم، اتفق الشريكان (جزئياً) على بعض القوانين المتعقة بمسألة الجنوب وبعض هموم الحركة، وعاد نواب الحركة ووزراؤها لممارسة أعمالهم المعتادة في البرلمان والحكومة، لكن ما ذلك إلى الجزء الطافي والمنظور من لوح ثلج الأزمة الغاطس، والذي يقبع تحت مياه «التحول الديمقراطي» وقوانينه، وفي مقدمتها قوانين الأمن الوطني والنقابات وقانون الإجراءات الجنائية، فقد جاء في بعض صحف «الاثنين» أن لجنة العمل والإدارة والحسبة العامة بالمجلس الوطني قد شرعت في مناقشة مشروعي قانون نقابة العمال لسنة 2009، المشروع المجاز من مجلس الوزراء بجانب مشروع القانون المقدم من نواب التجمع الوطني الديمقراطي، وأن اجتماع اللجنة أكد الاتفاق على مواد القانون بنسبة (90%) وأن نقاط الخلاف قد انحصرت في أربع هي: نقابة المنشأة، سلطات المسجل، نسبة تمثيل المرأة، وتعريف العامل. فالقارئ المدقق لهذا الخبر، وفق «التصريح» الصادر من اللجنة، يكتشف على الفور حجم المبالغة - (90%) - إذ يكمن التضليل الذي ينطوي عليه هذا التصريح، فلُحمة الخلاف وسداته حول قانون النقابات تتمثل في عنصرين رئيسيين هما «نقابة المنشأة» و«تعريف العامل»، ناهيك عن سلطات المسجل ونسبة تمثيل المرأة. فكيف يكون الاتفاق قد وصل إلى درجة 90%، وما زالت تلك المسائل الجوهرية عالقة أو مؤجلة. فنقابة المنشأة هي «تنظيم نقابي استحدثته النظم الشمولية»، بدأ في النظم الشمولية الاشتراكية أيام الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وأملته بحسب تركيبة تلك النظم وآيديولوجيتها الحاكمة ادعاءات تقول بأن الحزب الحاكم هو «حزب الطبقة العاملة»، وأن الدولة هي «دولة البرولتياريا» وإن ملكية وسائل الإنتاج هي «ملكية جماعية»، وبالتالي فإنه في المصنع أو المزرعة أو أي مؤسسة كانت فإن جميع العاملين فيها ينتمون إلى «طبقة واحدة» وتوجهات فكرية واحدة، وبالتالي فإن «النقابة» تمثل جميع هؤلاء من المدير إلى الخفير، وتدافع عن حقوق جميع هؤلاء دون تمييز. تلك النظرية تبنتها في ما بعد نظم شمولية، لا هي اشتراكية خالصة ولا هي رأسمالية كاملة، لكنها وجدت في تلك النظرية «فكرة» تناسب هواها للتخلص من فكرة النقابات الديمقراطية الأصلية، والتي تتشكل طوعاً من العمال والموظفين والمهندسين والأطباء وغيرهم بجانب اتحادات أصحاب العمل، وتعبر بالتالي عن الفرز الطبقي وتباين المصالح، وتدافع كل منها عن الفئة التي تمثلها. رأت هذه النظم «الهجينة» - وكان أبرز نماذجها مصر الناصرية - أن «نقابة المنشأة» تجنبها صراعات وضغوط المصالح الطبقية، وتجعل من تلك النقابة - تحت ذريعة وحدة العاملين - أداة طيعة في يد الحكومة. فأصبح وكيل الوزارة أو مدير المؤسسة في «المنشأة» - مصنعاً كان أو شركة - هو رئيس النقابة، يمثل جميع العاملين فيها مهما كانت درجتهم أو نوع العمل الذي يقومون به، حتى «يختلط الحابل بالنابل» ويفقد المستضعفون فرصة الدفاع عن مصالحهم وفق التقاليد والنظم النقابية الديمقراطية المعهودة، ويتخلص الحكم من صداع «التدافع الطبقي» والإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات بجميع أشكالها. لكن الأهم من ذلك، وفي حالتنا هذه تحديداً، فإن على (البرلمان) أو المجلس الوطني أن يدقق النظر في قانون النقابات الذي سيطرح عليه اليوم أو غداً في مرحلة السمات العامة، لأنه إذا انحاز إلى نظرية أو فكرة «نقابة المنشأة» فإنه سيكون - قطعاً - قد اختار التوجهات «الشمولية»، وصرف النظر عن فكرة التحول الديمقراطي و«وثيقة الحقوق» المفصلة والمنصوص عليها في الدستور الانتقالي باعتبارها أس ذلك التحول.. دعونا ننتظر لنرى كيف سيتصرف البرلمان قبل أن «نصفِّق» أو «نستهجن».