بزوغ شمس يوم جديد أو غروب شمس يوم مرتحل يزيدنا قناعة بأن قياداتنا السياسية ما عادت لها صلة بالسياسة، ولا الكياسة السياسية، ولا حتى النكتة السياسية التي يمكن الاستدلال عبرها بأنهم قدموا .. وقد فهموا مع تطور الأحداث حولنا إقليمياً ودولياً وفي الداخل اجتماعياً وفكرياً وسياسياً ما ينبغي أن يكونوا عليه، وقد استفادوا من الدروس المستفادة من الجوار أو الحوار ولكن يبدو أنه – أي ساستنا – بلا استثناء لا زال بعضهم يتسابقون في أزقة السياسة وحواريها بحيث يلهث بعضهم خلف جواري المناصب حتى استوى الشيب والشباب معاً في السباق الماراثوني المحموم، حيث يرى الكل أحقيته وأهليته فقط ولا يحفل إطلاقاً بمنطق التاريخ ولا الجغرافيا هو.. وبس. تطالعنا الصحف السيارة والدوريات المتخصصة ووسائط الاتصال الأخرى عامة أو خاصة بأدق وآخر أخبار الساسة سواء الجالسين على دست الحكم أو الواقفين على رصيف الانتظار بمحطاته المختلفة المتباينة الشكل، والتحويلات اليدوية أو الهيدروكليكية أو التي تعمل بالتحكم من على البعد، وحتى البدلاء المتوقعين أنفسهم شغلتهم المعاضل التي يعيشونها ويقتاتون عليها عن التفكير السليم والتخطيط بتجرد لما سيكون عليه المآل في سودان الغد، سودان ما بعد الحوار، لقد تعرض الكثير من الكتاب إلى ظاهرة هروب القادة السياسيين من مسؤولياتهم القيادية سواء على مستوى أحزابهم، جماعاتهم، طوائفهم الدينية أو الفكرية وانشغالهم بأمور الأجدر بآخرين أن يقوموا بها، لأن عليهم أي القادة أن يتفرغوا تماماً للوطن وهمومه لا أن يخوضوا هم أنفسهم وأتباعهم في طرق جرداء غابت عنها الاستنارة العلمية وتجافت عنها العقول المستنيرة. من الساسة القدامى – أمد الله في أيامهم – من ممارسة العمل السياسي فكراً وسلوكاً لنصف قرن من الزمان وبعضهم يزيد، غير أن مفاهيمهم عن الحرية السياسية لم تكن تتعدى منظورهم الشخصي أو تطلعاتهم التي لا سقف لها إلا الثريا لا الثرى، انزوى بعضهم خلف موجهات داخلية ضيقة تعكس الضعف السياسي العام الذي تعايشه الأمة السودانية حتى وصلت بنا الحال إلى المجتمع أو الفكر السياسي الصفوي، الذي تغيب عنده أو فيه حلاوة الممارسة العقلية للحرية السياسية، السيادة أو السيطرة فقط للموجهات التنظيمية أياً كانت، وفي الوقت ذاته تطالعنا الوسائط بقفزات هائلة حققتها خطوات الساسة الحادبين والجادين في تهيئة بلادهم فكرياً وسياسياً لتتبوأ مكانها في عالم لا يؤمن إلا بالقوة ومتطلباتها المعلومة. لعل الحوار الوطني الذي ابتدرته الحكومة وهيأت له كما قلت في مقال سابق المطارف والحشا، وتنادت إليه كل الطوائف إنما هو بالونة اختبار قصدت به الحكومة أن تُرِي جموع الشعب السوداني والمجتمعات الإقليمية حولها مدى تفاعلها واستجابتها للمتغيرات التي فرضتها الظروف الواقعية للبلاد، وفي الوقت ذاته لم تستطع قيادات الأحزاب التقليدية أن تستوعب مخرجات الحوار المتوقعة إلا من خلال منظور الآخرين الذين يختلفون هم أنفسهم على مفهوم الحوار، بل أن بعضهم أضفى صفة النظري على الحوار مؤكدين أن لا صلة بالحوار الجاري بالواقع السوداني المعاش، وهذا بالطبع قول يدحضه واقع الحوار الذي تم وتفاعلات المجتمع معه ومتابعة العالم له عبر أجهزة الإعلام، ثم أخيراً المناقشات العلنية والشفيفة التي دارت ونُقلت كما هي دون تزييف وحتى هذه اللحظة لم تستطع القيادات الحزبية المعتقة أن تنعتق عن وهم أن المؤتمر الوطني إنما يبحث عبر الحوار عن وسيلة لإطالة أمد الحكم، وهم في الوقت ذاته أدرى من المؤتمر الوطني أو يتساوون معه في العلم أنه لو دامت لغيره لما آلت إليه، وكانوا هم السابقون فصاروا اليوم المقربون، وقد يكونوا عقب الحوار المالكون، إنها سنة الحياة، لقد كان بإمكان القيادات السياسية ولا زالت الفرصة أمامها ليس ركوب قطار الحوار بل قيادته قيادة توافقية مع المكونات الأخرى. لا أستطيع القول جازماً أن القيادات السياسية غير المشاركة في الحكم والتي يعول عليها كثيراً كمعارضة قد تجاهلت الحوار وأحداثه تجاهلاً تاماً، فليس لها ذلك ولا ينبغي لأنها إن قصدت ذلك تكون قد أخرجت نفسها من دورة التاريخ السياسي السوداني في أدق ظروفه، وقد تشهد الأيام القادمة تغييرات لها ما بعدها في شكل الدولة ليس جغرافياً وإنما سياسياً واقتصادياً وهي – أي هذه القيادات – لا تستطيع أن تحيا خارج مياه السياسة فالموت لها إن ارتضت ذلك هو الحكم المؤكد، هذه القيادات تأكل وتتنفس بالسياسة. في تعاطيها أو تعاملها مع مقترحات مخرجات الحوار الوطني المتوقعة غابت اللباقة السياسية على الأقل في بعض تصرفات القيادات السياسية، وهي تتناول الشأن السياسي المتوقع والدبلوماسي والاقتصادي ثم الاجتماعي على الأقل من منظور سودانوي بحت، وفي اعتقادهم أن الإعراض أو التهكم من بعض البنود أو العوامل التي تناولها الحوار يفرغ الحوار من محتواه الوطني، أو يبعده عن الأهداف والمقاصد التي خطط لها المؤتمر الوطني الذي لم تفت عليه العقبات الإدارية والفكرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وربما العسكرية التي تسعى المعارضة لتوظيفها تعويقاً للحكومة ووأداً للحوار الذي لاحت في الأفق بوادر نجاحه. عدم وضوح رؤيا قيادات بعض الأحزاب للحوار الوطني إن كان مقصوداً لذاته انتظار لفعل ما أو رد فعل متوقع إنما يعكس جهلاً سياسياً ناضجاً مثقلاً بأحمال ماضي ممارسة العمل السياسي ليس النمطي المألوف، بل التوارثي وإما إن كان عدم الوضوح ناجم عن عدم فهم محتويات وتقاسيم الحوار الذي دوزن حركة المكونات الاجتماعية والسياسية فانتظمت فيه فإنه وأيم الله – لا ذنب بعد الكفر – والجهل لا يخفي من الحقيقة شيئا ومع أن التفاعل الذي جرى استطاع أن يزيل الكثير من الغبش والتعتيم والتعميم الذي قصد به البعض إطاحة الحوار به، وهؤلاء البعض هم تلاميذ الزعامات السياسية الهاربة من الحقيقة. تُشن الآن وستشن حتى لحظة إيفاء الحكومة بالتزاماتها المعلنة تجاه مخرجات الحوار هجمات شرسة للتشكيك حول الحوار ومصداقيته أو مصداقية الحكومة في إنفاذ مخرجاته، وهذه الهجمات تقودها قيادات الأحزاب المعارضة أو المخالفة التي اهتزت قناعاتها بسبب بعض المواقف الحكومية الرسمية أو التي أبداها بعض رموز المؤتمر الوطني والمتعلقة بالحوار الوطني ويكفي أن الإمام الصادق المهدي زعيم أكبر كيان حزبي معارض للحكومة لم ينبس ببنت شفة فيما يتعلق بالحوار قبولاً كاملاً أو رفضاً مانعاً واكتفى فقط بالتطمينات والإيماءات أو الاشارات التي تحتمل كل الأوجه قبولاً أو رفضاً، وهو أمر لعمري ينطبق عليه القول طب نفساً إذا حكم القضاء، أما الميرغني رغم شراكته الحكومية فلا زالت مكونات حزبه تتخبط في تشخيص ماهية الحوار ودسامته على المستوى الحزبي. إن الله جلت قدرته قد أنعم على الإنسان بأنعم كثيرة منها ما انسجم وتوافق مع طبيعته، ومنها ما خالف طبعه ووظيفته ولكنه استطاع بفطرته السليمة أن يخلق أو يحقق نوعاً من التوافق مع مكونات الحياة من حوله، مفرقاً بين الصالح والطالح بحيث لا يضر بحياته ولا بمصالحه ولا يتعدى في الوقت ذاته على حقوق الآخرين وحدودهم، ولقد استطاع الإنسان أن يضع مرتكزات ومنطلقات لكل أفعاله وقواعد يحتكم إليها والتي قد يكون من بينها – أي القواعد والمرتكزات – يوم الفزع الأكبر الذي يعرف الجميع مآلاته وعاقبته وهذا ما يجعلنا نقف لنقول للقادة السياسيين المتجاهلين للحوار أو المخذلين عنه أو المزايدين عليه أو المتكالبين عليه لشيء في نفس يعقوب، إن الشعب السوداني عبر الحوار عازم على انتزاع حقوقه، وأن الشارع السياسي السوداني أصبح واعياً ويفرق بين من يأكل باسم الدين ومن يأكل باسم السياسة، ولقد أصبح كلاهما سيان، وأخيراً معذرة لقادتنا السياسيين بكل صنوفهم وبيوتهم وانتماءاتهم واتجاهاتهم الفكرية والثقافية، فالمقصد هو أن الحوار يجب أن لا توقفه النظرات الضيقة، يجب أن يستعيد الوطن نبضه الذي بدأ يتلاشى وأن يعود إلى قوته لينطلق بعد أن أقعده أبناؤه بعدم الحوار، فنان الوطن الراحل محمد وردي آخر ما ردده من أهازيج وطنية كانت عن الحوار وضرورة استمراره فاستقيموا فيه جميعاً يرحمكم الله. فريق ركن