أفسح مساحة «الإضاءات» اليوم لنشر هذه المقطوعة الأدبية التي صاغها قلم الأستاذ خباب النعمان، ابن أخي وحبيبي الراحل محمد أحمد النعمان - أسكنه الله الفردوس الأعلى- حول مسألة تقرير المصير وما ينتظر الوطن من انقسام وتشطير. خباب شاب أديب أريب متمكن من العربية وفنونها، يعالج قضية الوحدة من منظور وجداني ، قليلاً ما حُظى باهتمام الساسة والراكضين خلف أفعالهم وأقوالهم من صحفيين ومحللين سياسيين، مع أنه بُعدٌ جديرٌ بالانتباه والاهتمام، بحسبه أحد مكونات بناء الأمم والأوطان، التي لا يمكن تخطيها لدى أي معالجة بعيدة أو تناول موضوعي لمستقبل البلدان، التي هي من شاكلة وطننا متعدد الثقافات والأعراف.. مستقبل وطن يتأرجح بين اختيارين، أما أن يختار الوحدة ويجني ثمارها وخيراتها ال«لامقطوعة ولا ممنوعة»، أو يختار بعضه الانفصال ويتحرى من ثم الانحسار والانكفاء و «النقاء» الفتاك لفرص التطور والنموء والإبداع التي يوفرها ويهيئ تربتها موزاييك الهويات الممتزجة والمتلاحقة. هذا بعض ما توحي به كلمات خباب على إيجازها، والتي تمثل عندي مدخلاً لمشروع كتاب متعدد الأبواب والفصول، استقصاء لفضاء هذا البعد الثقافي وعرصاته. üüüü وأنا أصوغ هذه الكلمات المترعات حزناً وأسىً على مصير بلد أُريد له أن يكرع لذاته على كؤوس الألم، لتفجعني سخرية الأقدار التي أرسلت من قبل المهدي عليه السلام إلى عوالم البرزخ دون أن يرينا نموذجه في جهاد البناء، بمثلما أرانا نموذجه الباهر في بناء الجهاد في مجتمع أقعدت به دعاوى التواكل والاستسلام للأقدار، مع أن أهم مراجعه، أعني عبد القادر الجيلاني أتى برؤية عميقة في مصاولة المحتوم حين قال:« إني أدافع الأقدار بالأقدار».. ولعل من أدهى الفواجع والمواجع أن يتزامن الرحيل مع دنو القطاف بُعيد فتح الخرطوم مباشرة لتدخل الدولة في تخبطها الإستراتيجي المُريع الذي أورثها الاضمحلال المبكر .. ولأن التاريخ يعيد نفسه مع مراعاة الفوارق دون أن نستقي منه سُلاف العبر .. رحل قرنق بذات الصورة .. ورحلت معه أهم مُنجزات الاتفاقية، ألا وهي روح الشراكة التي تقوم على بعض الحيثيات الواقعية، وكثير من الوشائج الوجدانية.. وهذا ما يفسِّر سرَّ خطابه الحميم الذي يبلغ شغاف القلوب قبل أن يلج إلى مستودع العقول .. وحتى ندلف إلى عمق القضية وجوهر المسألة آثرنا الابتعاد عن فسيفساء السياسة وتعقيداتها ودنونا من مسارات الثقافة ومساربها الشفيفة، والتي لها حظ وافر من تأزيم وتقزيم القضية المثارة، بيد أن أهم مسوغات التمرد التي ترد على ألسنة قادته خطابةً وتخطها أسنة أقلامهم كتابةً هي مفردة «الإستعلاء الثقافي»، بل إن أشهر أحاديث قرنق كانت تدور حول هذا المدار، ولذا فالمدخل الوجداني مهم جداً في معرفة واستنكاه الموضوع والإحاطة به من جهة، ومهم كذلك في صياغة وحدة إنسان السودان، ولا أقول جغرافيته الكبيرة الممتدة في مقابل الدفوعات الإنفصالية «الكاسية العارية» التي سيتضح بؤسها فيما يلي من سنوات عجاف ستضرب كل أرجاء الوطن .. ولذا يجدر بي أن أعيد النظر فيه بوصفه الأكثر إغراءً وإغواءً للنفسية السودانية، فقد عُرف السودانيون بجنوحهم لكل ما هو عاطفي ومجافاتهم لحجاج المنطق ومعاظالاته.. وقد أعجبني جداً ما طرحه الشاعر الفطحل السر قدور ببرنامجه ذائع الصيت «أغاني وأغاني» في سياق حديثه عن الراحل الفذّ عبد المنعم عبد الحي «الدينكاوي الشفيف» الذي استطاع أن يُعبّر بصفاء قريحته وحُسن منطقه الشعري بما لو وزن بالذهب لرجّحه: داعب الخد نسيم الصبح يكسوه إحمرارا ثم ماج القدُّ والخصر استدارا .. فتنتي والشعر فرّاق على غير انتظام.. فأرسلي طيفك .. يمحو النوم من عين النيام .. هذا ما قاله ابن عبد الحي وهو ينضح فصاحةً وجمالاً .. ولا غرابة فكأنما السحر اختار ومنذ الأزل أن يتجه جنوباً .. لكن السر قدور رأى في ذلك دليلاً قاطعاً على أُحادية الثقافة وقُدرة «الخُلعاء»، كما يحلو للخاتم عدلان في إمكانية إجادة التعبير بها، بحسبان أن الثقافة هي نتاج التاريخ الواحد والجغرافية الواحدة، ونرى نحن أنه دليل قاطع على نجاعة التداخل والتبادل الثقافي بين أطياف متعددة وألوان متباينة، كان أهم مخرجاته هذا الامتزاج أو ما أسماه أحد أساطين الثقافة في بلادي بعصير الدهشة، وهو أعمقُ أثراً وأبعدُ غوراً في إستجلاء عوامل الوحدة الوجدانية لإنسان السودان .. ولكن من أسىً أن التعبير الوجداني على ذلك الإقتضاء في غاية الشح والإهتراء وليس له إلا «صديقنا منقو» التي اعتبرها البعض ضرباً من ضروب الوصاية والتلقين الثقافي مع أنها مكتوبة بروح الأستاذية نسبة لشاعرها المرهف عبد اللطيف عبد الرحمن: «منقو.. قُل لا عاش من يفصلنا .. قُل معي لا عاش من يفصلنا»، لكن يبقى السؤال مفتوحاً على احتمالات الإجابة في يوم ما .. ما الذي سيقوله منقو؟؟ وهل ما سيقوله هو تعبير على ما يعتقده حقاً وصدقاً؟؟ وما الذي فعله منقو لإستبقاء فرص الوحدة ؟؟ و هل يعني استقلال منقو إنهاءً حتمياً لداء الإرتهان؟؟ أم أنه محض إستبدال لفضاء ثقافي غريب بفضاء أغرب؟؟ وأيهما أقرب لمنقو الثقافة العربية الضاربة في جذور الجنوب أم الغربية الطفيفة الطارئة ؟؟.. وإلى حين الإجابة تبقى بوارق الأمل، في اتصال الحراك الثقافي جنوباً وشمالاً، مؤشراً على علو الثقافة على اعتبارات الفواصل والحدود في عالم طفق يبني نماذجه في الوحدة والإندماج واقعاً على المسارح الإقليمية والدولية وافتراضاً على عوالم الميديا وشبكات النت .. ü خباب النعمان