هذا مقال جديد للأستاذ خباب محمد أحمد النعمان، يمعن فيه النظر حتى يلتقط الخيط الناظم لجميع «الضلالات» وسط عكار الجدال الغوغائي- المفروض والمفترض- حول سؤال ما أنزل الله به من سلطان: سؤال من نحن؟ سؤال «لا يودي ولا يجيب»، وإن ودى «يودي في ستين داهية» وإن جاب لن يجيب غير «ضَقَلها يلُولح»،إنه السؤال «الفتنة» الذي استعاضت به النُّخب السودانية عن خيبتها وعجزها الشائن عن الإجابة على السؤال الآخر المُلح والمُحرج والمُنتج سؤال ماذا نريد؟.. وبذلك تحول جدل «المثقفاتية» والأندية السياسية إلى «غلُّوطية» العروبة والأفريقانية التي مزاجها بعض «التطرف الديني» هنا وبعض التخليط اليساري - الأصولي هناك. وهذا جوهر ما لمحه خباب وأعمل فيه ذائقته النقدية النفاذة وقلمه الشفيف، تعبيراً عن تأملاته وتأملات جيله الحيرَى في غُثاء السياسية السودانية الحامل لكل صنوف الأوشاب و «الملوثات الفكرية»، وفي مقدمتها ما يسمى ب«جدل الهويَّة السودانية»، بل هو «جدال وتنابذ» لن يقود في آخر اليوم وبعاقبته إلا إلى «الهاوية» كما أكد انفصال الجنوب، وإلى «مهاويها» المتوقعة والمنتظرة كما رأى الأستاذ خباب.. فإلى متن المقال: مقولتان أسستا لانشطار الجغرافية الاجتماعية في السودان وأدتا لانفصال لُحمة إنسانه وتمزيق كيانه، المقولة الأولى: هي ضرورة الاتساق الذاتي والتي جرى تسويقها بصورة متكاثفة في شمال السودان ولاقت رواجاً لافتاً بين أطيافه المجتمعية التي ظلت تراهن على حقيقة انتمائها للهوية العربية وتنفق أثماناً باهظة في سبيل إثباتها وروداً ودلالةً.. المقولة الثانية: هي ضرورة الانعتاق من مركزية الهوية العربية القابضة وحمأتها المستعرة، وقد جرى تسويقها في عوالم النطاق الهامشي الذي يمثله لفيف من المتثاقفين ذوي النزعة اليسارية.. وإطلالة نافذة لبنية خطاب الهوية السودانية في تبدياتها الأخيرة تكشف لنا كيف أن العقائديين السودانيين قد فشلوا في ترويج بضاعتهم الأيدولوجية ثم هرعوا يستغيثون بخطاب الهويات الذي يلامس شغاف القلوب ويدغدغ خلجات النفوس بحسبان أن الدم أثقل ميزاناً من العقل.. وكان اليساريون هم من قاموا - مؤخراً- بإقحام الهوية ضمن مفردات السجال السياسي والثقافي بعد أن عجزوا عن استبقاء الفوارق الطبقية كمعيار أصيل لتحديد التراتيبية المجتمعية، ولعل ذلك مرده إلى ميزة شديدة الخصوصية تمثلت في تواضع أغنياء السودان «البرجوازيين» أو على الأقل عدم نزوعهم إلى تأسيس عوائلهم الخاصة التي تعلق على أبوابها «ممنوع دخول الفقراء والكلاب».. بل إن سجلات الذاكرة الشعبية لتختزن في طياتها كثيراً من القصص والأمثولات الضاجة بعبر التواضع لا تواضع العبر.. وقد نذر اليساريون لإنفاذ هذه المهمة أقوى كوادرهم حجة وأنصعهم بياناً وما إسهامات الخاتم عدلان كتابة وخطابة وترجمة وعبد الله علي إبراهيم، بل وحتى محمد إبراهيم نقد في كتابه عن الرق إلا خيطاً دقيقاً ناظماً، نسج على منواله لفيفٌ مقدرٌ من الكُتَّاب لم يكن أولهم الباقر العفيف وعبد الله بولا ولا آخرهم حيدر إبراهيم وهشام عمر النور.. وإذا كان لليساريين القدح المعلى وقصب السبق وحيازة الفضل في تنظيف الملعب وتهيئة المسرح، فقد أثرى الإسلاميون الساحات بأنساق مضادة وناسفة لمنطق الخطاب ونطاقه، وقد ذهب بعض النقاد إلى أن احتدام جدل الهوية السودانية هو في حقيقته احتدام حول هوية الذات الحاكمة «من يحكم»، وليس احتدام حول موضوع الهويّة الحاكمة «كيف نُحكم»، أو بعبارة أخرى صراع على المصالح لا صراع المفاهيم كما يقول فرانسيس دينق، وهي لافته سبق أن رفعها شيخ المعرة حين قال «إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء».. ووابل كثيف من الدراسات والكتب يتناول أزمة الهوية في السودان ويردها إلى مآرق جوهرية في هيكل التراتيبية الوطنية التي لم تستوف بعد أشراطها النهائية لتكوِّن صيغة انتمائية لدولة عصرية تؤول الوشائج فيها وتنتهي إلى هوية وطنية عابرة للإثنيات والعرقيات المتعددة.. ورغم أن بعض الدراسات قد انطوت على التباس فاضح بين الأحكام الأيدولوجية والأحكام المعرفية بلغت حدتها أن وصم الباقر العفيف «النص القرآني» وما يحيط به من سياق تفسيري وتبريري، بأنه يكرس للوقائع التميزية على أساس اللون حين يقول « يوم تَبْيَضُ وجوه وتسود وجوه»، فيضفي على اللون الأبيض دلالة إيجابية وعلى الأسود دلالة سلبية.. وهو على علمه يسقط حقيقة يعرفها عوام الدهماء فضلاً عن عوام العلماء من أن لكل لغة سماتها الخاصة وطرائقها التعبيرية المميزة.. لكن العربية بوجه خاص تتعاطى مع الألوان بشيء من الموضوعية والمحايدة، فقد سبق لعنترة أن قال «لولا سواد الليل ما طلع الفجر»، ويذهب العفيف في ذات الأطروحة المشار اليها «أزمة الهوية في شمال السودان: متاهة قوم سود ذوي ثقافة بيضاء» إلى أن الهوية الشمالية تعيش أزمة حقيقية بسبب ثلاثة عوامل هي «التناقض بين تصور الشماليين لأنفسهم وتصور الآخرين لهم- غموض هويتهم ويقصد بها تحديداً ما يواجه بعض الجاليات السودانية في الخارج من حيرة وإيهام ازاء تصنيفاتهم العرقية والاجتماعية وفق القوالب المشهورة، أبيض، أفرو كاريبي، آسيوي، أفريقي أسود، آخرون» - والعامل الثالث هو خلعاء الهوية ويقصد به إحساسهم بالتهميش داخل الهوية العربية لتماهيهم مع الأب «العربي» وتنكرهم للأم «الأفريقية» ورغم إنطواء هذه الأطروحة على كثير من الغلواء والشطط في تركيزهم الكبير على سيمولوجيا الألوان، إلا أن تصنيفاتها لمشكل الهوية بصفة عامة تبدو صائبة سيما فيما تتصل بالأبعاد النفسية المحيطة بالذات الشمالية التي ما فتئت تصوغ كثيراً من المعالجات حتى تنسق صورة ذاتها الذهنية مع معايير الآخرين، أو بتعبير فلسفي أدق في سبيل أن يتوافق عالم الأعيان مع عالم الأذهان.. أما عبد الله بولا «السيسيولوجي الشهير» فقد اتخذ في أطروحته المسماة «شجرة نسب الغول في مشكلة الهوية السودانية» مواقف أشد تطرفاً في تحميل الهوية الشمالية ونزوعها الاستعلائي لكل الأدوار والخيبات والمواقف والنخب، ويصدر في حقها أحكاماً إطاحية لم يسلم من سهامها الصائبة أقرب الناس إليه، معتبراً في خواتيم أطروحته أن سؤال الطيب صالح من أين أتى هؤلاء؟ يجد إجابة في بنية الثقافة الاستعلائية والاستعدائية التي تضج بها الهوية الشمالية.. لكن الدبلوماسي جمال محمد إبراهيم يرى أن اتهام الهوية السودانية «الشمالية» بالطرفية قول فيه إجحاف بالغ، لأنها تحمل ميزة خاصة تعتبر ثلاثية التكوين، تتفاعل فيها أقوى ما في الدوائر الأفريقية والعربية والإسلامية من عناصر»، ولذلك «فهي موعودة بالتوحد عبر مخاض طويل ومضنٍ»، لكن مع ذلك أتت الوقائع بما يعاكس فرضية جمال ولو بصورة مؤقته، حين اختار الجنوب أن ينعتق باستقلاله عن الشمال، وظن الشمال أن في ذلك فرصة لتحقيق اتساقه مع الذات التي لطالما «تدغمست» تحت مظان جواذب الوحدة وتجاذباتها.. وأخشى أن تستفيق الذات السودانية ذات يوم لتجد أنها وفي سبيل تحقيق الانعتاق لجنوبها والاتساق لشمالها انشطرت دون أن تحصل إلا على الوهم..!