في ظاهرة فريدة في نوعها.. ونادرة الحدوث.. وعن طيب خا طر حكومي صرف، تم إغراق جزء فاره من أرض عذراء زرعاً وخضرة .. وتنبىء بمستقبل واعد في مجالات شتى ومتنوعة، غير أن المثير في الأمر وأكثر حساسية ما يشبه إمتهان كرامة إنسان المنطقة الذي انتزع من أرض الأسلاف إنتزاعاً دون كلمة عجفاء بالرفض أو القبول.. وهم الذين شبوا على الفخر والإعزاز بلهجتهم الرطانية التي لم تبرح جوارحهم وسويداء أفئدتهم قيد أنملة .. ويلوكونها في المحافل والتجمعات مهما عظم قدرها.. ولكن الأمر الفادح والمصاب الأليم سيكون كنارهم الثقافي بعد أن ملأ الدنيا نشيداً وموسيقى وفنون شعبية، وجرجارات تمسح المسارح طولاً وعرضاً، وتحيلها لامعة كصحون المساجد .. بعد أن زعموا بل يقيناً إنهم بوابة العلوم و الثقافات الإنسانية التي تعم أرجاء البلاد عبرهم . واختنق عاشق سرة(1) بعبراته قبل أن يكمل لوحاته المزدانة بألوان الشرافة . ونقل محبوبته الأثيرة ببساط الريح إلى بوابة منزله بحي العمارات شرقي العاصمة.. ليتنسم عبير القمح وعبق النباتات الطفيلية التي تلتف.. حول أعواده الرقيقة .. أما العواد الماهر الماحي.. الذي طوع آلة العود ببنانه.. فقد حمله برفق النغمات الآثرة ضارباً الآفاق تجاه بلاد لم تنعم بالدفء طوال مسارها السرمدي . المغنواتي الكفيف دهب لم يستطع كتمان ما يعتري كيانة، وقلبه المتعب فأطلق العنان لدموعه من عيون أوشكت أن ترى نور الشمس بعد عقود من ظلمة حالكة صارخاً بدمعات حرى : منقا نيرو تللى مودى دوكا دينو والغافلون لم يكن ليعوا فداحة مصاب الهجرة القسرية .. ولم يخطر على البال أن الكيان الإبداعي لإخواني البرابرة الأوفياء ستذيب نصفها .. أو أكثر مع ذوبان قلوب نخيلها وتلاشيها ومواتها بأسفيكيا الخنق.. بجرعات زائدة من مياه النيل الذي طالما غنوا ورقصوا له.. ومن الغرائب والعبر مايدور الآن حول سد النهضة.. بعد إغلاق ملف السد العالي في زمان غابر.. وهذه فرصة مواتية للغوص في الأضابير.. وفض الأختام عن مستمسكات السد الأول بحساب الأرباح والخسائر، بعد مرور أكثر من نصف قرن، وهذا لا يتأتى إلا لمثقفي الديار ، وقد أعياني البحث عنهم بقلب واجف.. وتكمن أهمية البحث والتقصي لإنعاش ذاكرة بعض الإخوة في شمال الوادي وتبيان بعض من تضحيات الشعب السوداني، وهم باتوا يتحدثون عن السودان وكأنه ضيعة ورثوها عن أجدادهم . ويحاولون تمصير حلايب السودانية، وهم يدركون في قرار أنفسهم بسودانية حلايب، والبعض الآخر يزعم أن السودان جزء من مصر ، ويتحسرون على ضياعه.. متناسين أن السودان نال إستقلاله الكامل وتمتع بالسيادة على كامل أراضيه عام 1885 بعد أن قطع دابر الكافرين، وجز نواصيهم الإمام محمد أحمد المهدي، في حين أن بلادهم الشقيقة كانت ترزح تحت نير المستعمر البغيض، ومن نافلة القول والبديهيات أرجو أن أشير إلى أن الشعب السوداني قاطبة لم تنل قناتهم، أو أحجموا عن الوقوف جنباً إلى جانب إخوتهم بالشقيقة مصر عند الملمات .. ومن الشواهد ما لايحصى ولا يعد، أقلها ضمان استقرار تدفق المياه طيلة عقود على مواطنين تم تهجيرهم قسراً. (1)عاشق سرة هو الأديب الراحل الدبلوماسي العريق جمال محمد أحمد.