قيض الله لي أن أمكث بضعة أشهر في شمال كردفان لأغراض التدريب في الإعلام التنمية البشرية، وكانت تلك سانحة نادرة لأتعرف عليها وإنسانها عن قرب، وأن أتابع مسيرتهم الناهضة لتنمية ولايتهم بجهد غير مسبوق، كان حادي ركبها قرتنا في الغرة مولانا محمد هارون، وقد كنا كإعلاميين نزورها غببا دون أن نغوص في أعماقها ونسبر أغوارها. الكردافة نسيج إجتماعي مدهش أروع ما فيه سماحة تجل عن الوصف وقبول للآخر يكاد يلامس أوتار الإيثار في أحيان كثيرة، لذا كان من الطبيعي أن يكون لهم باع طويل في إكرام الضيف وإغاثة الملهوف، ويميزه رضا نفسي يكسوهم ولعلهم- كما ذكرت في مناسبة سابقة -أقل السودانيين (عبوساً) إن لم نقل أكثرهم أبتساماً، ولا اتردد أن أقول إن كل الصفات الحميدة التي يتميز بها السودانيون على كافة شعوب الأرض تتوفر في كردفان. من فخر كردفان الدائم أن التاريخ سجل لها أنها كانت نموذجاً، لما يمكن أن يكون عليه السودان والسودانيين حين يتكاتفون ويشد بعضهم أزر بعض، فقد صنعوا إنطلاقاً من معركة شيكان التاريخية النادرة مجسماً لقوة العزيمة والذكاء والتضحية والقومية ونكران الذات، التي حققت معجزة لا تزال الأكاديميات العسكرية تنظر اليها نظرة إكبار وإجلال وإعزاز، ولعل هذا يفسر لماذا ركز البريطانيون جهدهم فيها لينشروا ثقافتهم ويغيروا تركيبة المجتمع حتى لايتوحد السودانيون مرة أخرى ولكن هيهات. هاهي كردفان تنطلق مرة أخرى لتقدم لنا نموذجاً تنموياً وسياسياً ناجحاً ومتقدماً بخطوات كثيرة على كل الولايات، إن لم نقل كل دول العالم الثالث التي تسعى لتفعيل الجماهير (لحمة التنمية وسداتها ومجال خدماتها) وليس أدل على ذلك النجاح والتفرد من إقبال ولايات عديدة على إعتماد نهج الكردافة في التنمية والتوافق السياسي تحت مسميات شتى، ولكن لا يخفى على أحد أنهم يتبعون نفير النهضة حذوك النعل بالنعل. تجربتي على الصعيد الشخصي مريرة، ولكن ذلك لا يقدح أبداً في روعة إنسان كردفان وتميزه رغم بعض الهنات بسبب الموتورين الذين يحاولون الصيد في الماء العكر، ولعلنا في سوانح أخرى نسلط الضوء على انجازات إنسان ش كردفان المذهلة.