قال السياسيون كلمتهم بشأن الأوضاع في السودان ضمن حوارهم بقاعة الصداقة، ومفاوضاتهم التي فشلت بالعاصمة الأثيوبية أديس ابابا، ولما كُثر حديثهم دون جدوى أو نتائج ملموسة حتى شعر المواطن بالملل، كان لابد من البحث عن أصوات أخرى لتعبر عن ما يجيش في الوجدان السوداني وما يجري في شارعه، فكان خبراء السياسة والأكاديميون الوجهة الجديدة، الذين انتقت منهم «آخرلحظة» الدكتور محمد محجوب هارون رئيس معهد دراسات وأبحاث السلام بجامعة الخرطوم، لكي يشرح الراهن السياسي ويرسم خارطة طريق غير التي طرحها أمبيكي، لتنتقل بلادنا من حالة الحرب الى السلام فكان هذا الحوار: أجراه : لؤي عبدالرحمن *ماذا تتوقع بشأن ماجرى وسيجري من مفاوضات في العاصمة الاثيوبية ؟ -ماتم من خلال التوقيع على خارطة الطريق هو أن استعداداً قد تأكد توفره لدى الأطراف، التي كانت ترى أن خيارها لتغيير الأوضاع في البلاد يقوم على العنف، والواضح أن هنالك استعداداً للانتقال من هذا الخيار الى عملية سياسية لتسوية الأزمة السودانية وافتكر هذا تقدم مهم، وبالضرورة هذا لا يعني أننا قد أصبحنا على مرمى حجر من استئناف حياة سياسية سلمية تقوم على حالة توافق وطني، لأن هناك عملية أسميتها الصعود الى قمة الجبل، وهي علمية التفاوض والحوار التى ستفضي بنا لنهاية الطريق التي هي عملية مرهقة مكلفة لا تخلو من عثرات، لذلك أسباب موضوعية للتأخر لأن الذين يتفاوضون الآن ظلوا يتحاربون لفترات طويلة، هذا حوار متحاربين أولاً، التوقعات متباينة جماعة في الحكم أقرب الى الاعتصام بما هو كائن ومعارضين لهم سقوف عالية جداً، هنالك حالة عدم ثقة تسود بين الأطراف سببتها الدماء والحرب والقتال والمرارات، والى جانب ذلك عدم توفر ثقافة الحوار، هذه كلها تجعل الانخراط في عملية سياسية ناجحة عملية غاية الصعوبة، ولكنها ليست مستحيلة أنا أرى أننا سنصل الى اتفاق، هذا الاتفاق سيضعنا أمام أبواب مستقبل جديد للسودان، بعض المتابعين للشأن السوداني يلاحظون غياب المثقفين والأوساط الأخرى عن الساحة السياسية، وأنها متروكة فقط لكوادر الأحزاب؟ حينما نتحدث عن عملية سياسية نتكلم عن القوى السياسية التي تشكل المشهد السياسي بالطبع، والقوى هذه الحاكم منها والمعارض تأكل نفوذها كثيراً لم تعد تحمل صفة تمثيلية لقطاعات كبيرة من المواطنين، بحكم هذا التآكل لشعبيتها ليس فقط على هذا الصعيد، وإنما على صعيد قدرة هذه الأحزاب على أن تعمل على إنتاج مشروع وطني، كثير من الخطاب السياسي المتداول ضحل المستوى وهذا يطعن في أهلية وكفاءة أطراف الفضاء السياسي الوطني في تقديم أفكار تستطيع أن تشكل في نهاية اليوم مشروعاً وطنياً يخاطب نهاية الحرب، والتغيير لشكل الفضاء السياسي الوطني عملية تأخذ وقتاً وربما برزت في المستقبل القريب قوى جديدة تستطيع أن ترسم خارطة سياسية جديدة. *ماهو الدور المرتجى من المثقفين بمختلف أوساطهم ؟ - هذه مناسبة أرجو أن اهتبلها لكي أحرض مختلف مكونات النخبة الوطنية، موضوع المستقبل ليس موضوعاً يترك لمجموعات بعينها مثل القوى التي تعمل في المشهد الوطني العام، لا تترك هذه الأمة لسياسيين ومتحاربين فقط، مستقبل الوطن قضية كبيرة تحتاج لأن يكون للجميع دور فيها.. وبالتالي النخب التي تعمل في الصحافة والإعلام أو الفنية، ومجموعات المهنيين، أو رجال الأعمال، أو منظمات المجتمع المدنى.. أما أن تنهض لكي تساهم في جعل إنهاء الحرب اولوية ممكنة التحقيق عاجلاً لا آجلاً أو أن ننزوي بعيداً عن المساهمة، ونترك للأحداث أن تتفاعل بعيداً عن تأثيرنا، وقد لا نبلغ حينئذ نهاية الطريق التي نرجوها، لابد من إطلاق نداء للمكونات المختلفة بأن لا تكتفي بالتفرج فقط على مايجري، يجب أن تكون هنالك أدوار مرئية لها قدرة على التأثير، تجعل من الانخراط في العملية السياسية عبر الحوار أمراً ممكناً وناجحاً، وتجعل من امكانية أن ننتهي هذه المرة بتفاهمات تخاطب قضايا الأولوية الوطنية. * ماهو العمل الذي بصدده مركز دراسات وأبحاث السلام ؟ - معهد أبحاث السلام في جامعة الخرطوم، يعمل على أجندة التركيز فيها على المساعدة في إنهاء النزاعات السودانية والانتقال من مرحلة النزاع الى المراحل التي بعده، مثل التحول الديمقراطي وتعزيز الاستقرار، لدينا مشروع كبير في هذا الاتجاه يرمي الى دراسة ما أسميناه العبء التنموي للنزاعات المسلحة في السودان، وهذه دراسة فريدة غير مسبوقة بهذا المستوى، الغرض منها أن تبحث الكلفة الحقيقية المعنوية والمادية لنزاعات البلاد المتعددة منذ قيام الدولة الوطنية المستقلة، والفكرة في ذلك أن تساعد الدراسة في عملية السياسات العامة التي تجنبنا العودة للنزاعات بعد انتهائها، وأن نرسي دعائم مستقبل وطني يقوم على فكرة البناء والنهوض. *سؤال تقليدي ..كل هذه الدراسات أين تذهب وكيف تجد طريقها للتنفيذ ؟ - نحن واقعيين شوية، السودان بلد متخلف واحتفائه بالمعرفة مازال ضعيفاً والشأن العام يدار بدرجة كبيرة ليس على أساس معرفي، هناك الكثير من العشوائية والإدارة الدارجة للملفات العامة، هذه هي البيئة التي نعمل فيها، بالتالي مانقوم به يكون له أحياناً تجاوب ليس فقط من الدولة، وإنما من التكوينات خارجها مثل المجتمعين المدني والدولي، وفي بعض الأحيان قد لايأبه له، وهذا لايعني بأي حال من الأحوال أن نتخلى عن واجباتنا، نحن هنا تكليفنا الذي نتقاضى عليه أجورنا ونكتسب به صفاتنا هذه، هو أن نظل نعمل من أجل المساهمة فى تجفيف النزاعات وصناعة السلام، سنبقى نعمل وأنا اتصور قليلاً قليلاً يمكن أن نساهم في إحداث بعض التأثيرات الإيجابية. *أخيراً إذا كان لديك رسالة تريد توجيهها ؟ - أريد أن أقول كلمة مهمة جداً، هذه العملية التي بدأت باديس هذا الشهر عملية مهمة، وعلى مستوى التفاهمات السودان لديه تاريخ طويل من التفاوض بين الفرقاء السودانيين، وهنالك بالضرورة أدب كثير كتب وقد لايأتي بجديد إلا فيما يتعلق ببعض المستجدات هنا وهناك، أو بتكييف أوضاع المتفاوضين، لكن أنا أرجو أن يقود التفاوض والحوار السياسي هذه المرة الى تجاوز خطاب قسمة السلطة والثروة، أين السلطة التي هي جديرة بأن يتنازع عليها، ومن بعد أن يطالب تقاسمها، ولم تعد هنالك ثروة ذات بال، يجب أن يكون الموضوع مكان التركيز هو وضع أجندة لمشروع وطني حقيقي، أن نحدد فيه ماهو السودان الذي نريد في المستقبل دون أن نحرم الأجيال المستقبلية، في أن يكون لها دور في تحديد شكل مستقبله، ثانياً كيف نجعل أحد موضوعات التركيز انتشال بلادنا من قاع النزاعات ومتعلقاتها من حيث الأوضاع المتردية وشأن المعاش، وصورة البلاد أمام العالم تدهور الأحوال العامة، مثلاً اليوم نقلت الأخبار أن الإدارة الأمريكية أعلنت حالة الطواريء في ولاية أريزونا لأن هنالك أمطاراً وفيضانات أدت الى موت 3 مواطنين،) نحن الآن تتحدث صحفنا كلها عن مئات مافي أحد أخرج حتى بيان)، أحب أن أعكس لك الى اي مدى صرنا نتعايش مع أوضاع مأساوية وكأنها أوضاع طبيعية، انظر مثلاً الى حالة الخرطوم عند الأمطار والحديث عن الفيضان والخطر الذي يمثله، أنظر الى حالة القذارة التي نشاهدها في المدينة، الى آخره...... هنالك تحدٍ في أن نركز على مثل هذه القضايا بعيداً عن مجرد مخاطبة مشاغل بالغة الأنانية لبعض النخب، وفيما يتعلق في جانب الاقتصاد، ماسبق أن تم الاتفاق عليه في اتفاقية السلام الشامل عام 2005 حول قسمة الثروة، كان اتفاقاً متقدماً للأمام والمطلوب استكماله أولاً بأن نحدد ماهي مصادر الثروة في السودان، ثم يشكل العمل على هذه المصادر الأولوية، ثانياً أن الثروة الوطنية هذه ليس السؤال هو اقتسامها بانصبة بين المركز والولايات، التي هي معادلة مقبولة في الوقت الراهن، ولكن الذي ينبغي أن يشتغل عليه هذه المرة هو استخدامات الثروة المقسمة، ليس فقط أن تذهب الثروة المقسمة وتهدر في أيدي الذين استلموها بعد القسمة، كان تذهب للصرف السياسي أو على النخب التي امتهنت العمل السياسي والتنفيذي، هذا يتطلب بأن يعالج بقانون، طبعاً أنت تعلم أن مفوضية تخصيص ومراقبة الايرادات ظلت منذ 2005 م وحتى هذا اليوم بال قانون وأن رئيساً سابقاً لها، حينما طالب بأن يكتب لها قانون تم اعفاؤه، نامت النخب السياسية عن هذا الموضوع كأنه لايعني شيئاً، هذا موضوع أولوية وأعتقد أنه غاية الأهمية، استخدامات الثروة يجب أن تحدد كم نصرف على التعليم والرعاية الصحية الأولية أو على البنى التحتية، كم نترك لأجيال المستقبل من الثروة، يجب أن يكون الموقف تجاه بناء نظام ديمقراطي في البلاد موقفاً أصيلاً وليس انتهازياً، لاحظنا أن اتفاق السلام الشامل كان منوطاً به أن يحدث تحولاً ديمقراطياً في البلاد، لكن لأن أطرافه كانت سعيدة بانصبتها من الثروة والسلطة نامت على موضوع التحول الديمقراطي، قضايا التحول اليمقراطي وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية قضايا بناء اقتصاد وطني حقيقي، يجب أن تمثل قضية صورة الوطن أمام العالم وجوهر ينبغي التفاوض عليه والتحاور حوله، إذا استمرينا في الاتجاه الانتهازي المعروف الذي هو أريقت دماء مئات الألوف من السودانيين من أجل الحصول على الأنصبة في مواقع وزارية في المركز والولايات، يكون هذا قمة السقوط الأخلاقي .