ظللت أتنقل من دولة إلى أخرى وقد طوّفت تبعاً لذلك في شرق البلاد وغربها منذ نحو أربعين عاما ، عشت منها 14عاماً في أوروبا الغربية (إيطاليا - سويسرا - إنجلترا) ، ولم ترق لي الحال هنالك أبداً فلا «الناس ناسي ولا الخلَّان خلاني» . لقد كنت واهماً وأنا في ميعان الصبا أن أوروبا هي الملاذ والمبتغى الأخير في كل شيئ ولكن سرعان ما أدركت أن أوروبا «غابة جميلة في شكلها دميمة في دخلها»، وبخاصة في الجوانب الأخلاقية والفكرية ، فالتقنية والآلات التي تفخر بها بحاجة إلى رحمة ... بحاجة إلى «أنسنة» أي أن تكون أكثر إنسانية بعيداً عن القسوة المادية والخواء الروحي ، والاستعلاء ، والصلف ، والفوقية ، التي كان ينادي بها بعض مفكري أوروبا المغرورين منذ عهد ليس بالبعيد !!! فلا عجب أن هربتُ منها كما هرب الكثير بأنفسهم أو مع أبنائهم خوفاً من طمس الهوية وفقدان الإنتماء والمعاناة المعلنة وغير المعلنة على السواء !!! بعدها انتقلت إلى إحدى الدول الخليجية طلبا للعمل ، فإذا بأحد الإخوة يزيِّن لي فكرة السفر إلى ماليزيا والإقامة فيها وأنه كما قال « أنسب مكان لي لتحقيق طموحاتي المادية والفكرية « كان ذلك عام 1996م ، وسرعان ما استخرت الله وتوكلت عليه فهو نعم المولى ونعم النصير ، وحزمت حقيبتي واتجهت شرقاً هذه المرة ... إلى أقصى الشرق ، ولشد ما هالني وأذهلني - وانا خارج من مطار كوالالمبور - تقدم ماليزيا الباهر والساحر وحرص قادتها على التفرد في كل شيئ حتى في البروج المشيَّدة ، مما شجعني - من حينه - على العكوف على دراسة الظاهرة الماليزية التنموية الإبداعية الرائدة والتي سنفرد لها جانباً من حديثنا في كتاباتنا القادمة بحول الله ... ومن يكون وراء تلك التجربة ؟ وهل الشعب شريك للقادة في صنعها من خلال استعداده المفطور لتقبل التغيير والسير حثيثا نحو الإبداع والإنجاز الملموس في كل مكان حولنا ؟! وتأكد لي في حينه أن نصيحة الأخ الذي شجعني على السفر إليها كانت في مكانها . لقد كان محقاً تماماً فيما ذهب إليه . لقد تنبهت فيما تنبهت لهدوء الناس ودماثتهم بحيث لا أكاد أسمع صوتاً عالياً ولم أشهد مشاجرة أو تبرماً أو شتماً في قارعة الطريق ... الكل في طريقه الى الإنجاز الواعد وكأنما هم في سباق مبرمج بالغ التنظيم ، جليُّ التخطيط !!! إلتفتتا ومنذ الوهلة الأولى إلى عادات وتقاليد صارمة لم نكن نأبه لها كثيرا ومنها مثلا أنه يمنع الدخول بالحذاء - منعاً باتاً - إلى المنزل أو حتى المكتب !!! ولابد من التلطُّف والتفضُّل - كما سبق وأن أشرت - من خلال الحديث بصوتٍ خافت وعدم التجريح والتعنيف والتوبيخ - وهذه ليست من المفردات المعروفة عندهم بالمرة - وإلا سيختفي الناس من حولنا في هدوء !!! يذكرني هذا قصة طريفة رواها إلينا أستاذنا الحبيب العلامة البروفسور مالك بدري والذي حاز مؤخراً على شرف لقب ودرجة «أبي علم النفس الإسلامي» لبحوثه وإنجازاته الفريدة في العالم في هذا السبيل ... وقد عاش ردحاً من الزمان في ماليزيا أستاذاً جامعياً مرموقاً ، وكان بالمناسبة لي شرف إجراء لقاء معه في أول تقرير لي لقناة الجزيرة عندما كنت أول مراسل لها في جنوب شرق آسيا إنطلاقا من العاصمة الماليزية كوالالمبور عام 1999م ... وذلك عن «الأدمغة العربية المهاجرة» ... يقول أستاذنا الجليل أنه تراهن مع زميل له حول أن الناس هنا لا يتشاجرون ولا يرفعون أصواتهم أبدا مهما كان ، فرفض زميله ذلك قائلا بل يتشاجرون ويرفعون أصواتهم ، فما كان من البروفسور مالك بدري إلا أن قال له سأعطيك ألفي دولار إذا وجدنا من يرفع صوته أو يتشاجر !!! ومرت سنة بأكملها وصاحبنا متعطش لاقتناء المبلغ ولكن دونما جدوى ، وذات مرة وهما يصليان في المسجد إذ سمع صاحبنا صوتاً عالياً من أحد المصلين في الصفوف الخلفية فقال في نفسه لقد كسبت الرهان ! وقال للبروفسور الآن حصحص الحق ، فقال له رويدك دعنا نتحرّى لنعرف الحقيقة على وجهها ... وبعد التحرِّي اتضح أن الرجل الذي رفع صوته مختل عقلياً !!! يا حسرة على صاحبنا لقد خسر الرهان ويالها من خسارة حقا !!! تلك هي لمحات بارقة في عجالتنا هذه وسنعاود الحديث عن ماليزيا وعن غيرها وفقا لتجاربنا الدولية في هذا السبيل بحول الله . كوالالمبور