أفول نجم: يحكى أن أفول نجم المسيحية فى ممالك النوبة المسيحية يأتي تاريخياً بعد القرن السادس عشر، عندما تم القضاء على كل الممالك المسيحية، وعندما بدأ أول حاكم مسلم فى بلاد النوبة، وكان هذا يعني أنه كان على المسيحية أن تعرف أن مكانتها قد ضعفت ونجمها قد أفل، ولكن من الناحية التاريخية لا ينتهي تاريخ دين من الأديان دون مقدمات، بل ويظل هذا الدين موجوداً وحياً وراسخاً في الرواسب والمشتقات كما يقول علماء الاجتماع، وليس هناك ديناً كالمسيحية في بلاد النوبة أخذ فرصة مثل هذه الفرصة من كل الأديان، وإذا كان نجم المسيحية قد أفل في القرن السادس عشر فإننا الآن ونحن في القرن الحادي والعشرين لا زلنا نرى ممارسات مسيحية صرفة، وحتى الآن مثلاً رسم الصليب يحتل مكانة كبيرة، وسكب اللبن على شكل صليب بركة للعرسان لم يزل قائماً، وبرشمة الجسد كله يرشم الصليب عندما يرشم صدر الطفل بعدد من الصلبان تكون كبرشام أو تقفيل على الطفل لكي لا يؤذيه عدم رشم الصليب، وقد عثر في كنيسة فرس على قائمة أسماء السبعة والعشرين مطراناً لأساقفة فرس، وكل أسقف أمامه تاريخ رسامته وتاريخ نياحته، ولقد ذكر القس منسي يوحنا في تاريخ الكنيسة القبطية مكتبة المحبة 1995م صفحة 498، أنه كان بالنوبة سبعة عشر أبروشية أيام كان أهلها يدينون بالمسيحية، والحق يقال إن كثيراً من الآثار المسيحية موجودة الآن في متاحف العالم الأخرى، وعلى الأخص أن مملكة الفونج عندما سيطرت لم يهمها أى آثار مسيحية، ولم تفكر أن هذا تاريخ يجب أن يراعى وهناك محطات تؤكد أن المسيحية فعلاً لم يأفل نجمها سريعاً كما يقولون، إنما بعد القرن السادس عشر من بينها : 1- فى سنة 1520 دخل السودان الرحالة البرتغالي فرنسيسكو الفارز، وكان سفيراً لدى النجاشي ملك أثيوبيا، وكتب الفارز يقول إنه كان فى بلاد النوبة 150 كنيسة نوبية، وكانت الكنائس تبنى فى القصور، وكانت الحاجة ماسة إلى آباء كهنة، وقد قدم نفس هذا السفير تقريراً عن مدينة سوبا وطالب بتوحيد قوات المسيحية الغربية لتوجيه حملة ضد الأتراك الذين يهددون الجزيرة العربية . 2 في سنة 1742، أي في القرن الثامن عشر، وفي جزيرة تنقاسي تجاه دنقلا، كان هناك عدد من أهل النوبة فى زيارة لمصر، وقاموا بشراء العديد من الصلبان والهدايا المسيحية . 3 جاء في بعض روايات الرحالة أن بعض أقباط السودان كانوا مقيمين في وطنهم السودان ويعملون تجاراً أو وكلاء استيراد من مصر، وعندما دخل محمد علي السودان سنة 1820م كان لا يزال ألوف الأقباط فى السودان، وعاد بعض من غيروا المسيحية إلى المسيحية، وطلبوا أن يرسم لهم البابا بطرس الجاولي أساقفة أقباط، وفعلاً تم رسم أسقفين مات أولهما ثم رسم الثاني، وقد ذكرتهما لويزة بونشر الإنجليزية في كتابها تاريخ الكنيسة المصرية، وقالت إن محمد علي عند دخوله إلى السودان وجد أسقفاً قبطياً، وثماني كنائس قبطية . 4 لم يزل حتى الآن في السودان هناك من يغطس أولاده في البحر غطسة حنا في إشارة إلى معمورية يوحنا، كما كانت المرأة عندما تلد تتطهر من ماء النيل، وكانوا يحملون الطفل للاغتسال بعد ثلاثة أيام من نهر النيل، وكانوا يلامسون المولود صبياً حسن الأخلاق ليلمس شفتي المولود ويستلم عنه أجمل أساليب الكلام، ولم يزل دارسو آثار حلفا القديمة يذكرون كيف كانت الصلبان تقام بالأطباق في واجهة المنازل . وكان يجري طقس رسم الصليب للأطفال عندما يراهم أحد لأول مرة ، وتكون الصلبان بمثابة برشام يغلق الطريق أمام العين الشريرة. 5 في دارفور الغرا أم خيراً جوا وبرا وحتى الآن هناك مجموعات مسيحية تحيا للمسيح، وفي طقوس الزفاف يتوجه العروسان مع زعيم القرية إلى الصخرة المقدسة، ويذبحون خروفاً، ويضعون الدم حول مناطق معينة فيما يشبه طقس الحريرة وفك الحريرة في زواج الأقباط ، وفي موسم الأمطار يصعد الملك إلى تل عالٍ ويذبحون عنزة في قريتهم الكبرى تورتي، وينظفون قربة الماء، ويمرون في موكب دعوات إلى الله يرشون الكوخ ويرشون الناس والكل متجه نحو الشرق وعلى قمة الجبال تنهمر الأمطار، وما زال حتى الآن غرب السودان ينشد شبابه وصغاره في الشوارع كيل كيل يا ميكائيل بالمد الكبير، وأغلب هذه الطقوس عند قبيلتي برتي وبرنو بدافور، وعند أهل ميدوب الذين بدأوا بها في ضواحي دنقلا . 6 ولم يزل حتى الآن عند قبيلة همج الروصيرص يتم القسم أو الحلفان باسم سوبا دار الجد والحبوبة، اللي يطفح الحجر ويغطس الكركعوب، وهذا تخليد لذكرى خراب سوبا . 7 عند قبائل البجا التي قبلت المسيحية اكتشف العالم ولنكسون سنة 1828م آثار كنيسة في موضع يدعى أبودرج ، مبنية بالطوب الأحمر، وهذا يؤكد وجود أديرة على غرار أديرة الكنيسة القبطية، وبنفس أسمائها . 8 ولن ينسى أحد الشيخ أبو صالح الأرمني وهو من علماء القرن الثاني عشر والذي تحدث في عجب وتعجب عن كنائس سوبا وعن الأديرة الجميلة فيها، وعن الجناين وأن عدد الكنائس كان أربعمائة كنيسة، وتحدث عن الكنيسة الكبيرة التي يتجمع فيها أعضاء باقي الكنائس . أخيراً فإن كل هذا يدل على أن المسيحية ظلت باقية حتى إلى أيامنا هذه، وأنه إذا كانت كنائس النوبة قد اندرست فإن بقاء كنائس أقباط الخرطوم لم يحدث فيه شيء، لم تزل هناك ايبارشينان قبطيتان تتنافسان في عمل الخير، وفي تنمية الأعمال الروحية، وفي كل عواصم السودان كنيسة قبطية تعمل فقط في مجال الروح وتنمو في نعمة الله، ويلوذ بها كل قبطي من أقباط السودان .