بغير قصد، لن نبعد كثيراً عن الأستاذ علي عثمان محمد طه وهو يشهر سيفه الباتر في وجوه المتلاعبين بأقوات الناس وأرزاقهم، وأظن أن أكبر دافع لجعل الأستاذ علي عثمان أحد محاور هذا النقاش، هو مكانته في نفوس الناس، وموقعه في سلم المسؤولية، وتصديه في ذكرى الاستقلال للمتلاعبين بالمال والمعاش، ومن أهم ثمرات هذا النقاش، إن استجاب الأستاذ علي عثمان إعلاء مبدأ الشفافية، وعرض الحكومة أمام الناس بشفافية وصدقية، باعتبارها حقاً وواقعاً تخاف الله وتخشى عذابه، وتبرهن أن الرادع عندها ليس هو قول الناس، إنما أقوى رادع تخشاه، هو ما جاء به ديننا من وعيد مخيف للحاكم الذي يمارس التضليل على شعبه، ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة.. في يوم السبت 4/9/2010م قرأت للدكتور عبد الوهاب الأفندي، في مقاله الراتب، ما استعصى على تصديقي، فقد كتب منتقداً أداء (التلفزيون) وقال: (على سبيل المثال) لا تكاد نشرة تخلو من حديث عن (النفرة الزراعية)، ولقاءات حولها وحديث وقرارات، دون إعطاء أية معلومات وإحصائيات ودون أن يعلم المستمع شيئاً عن خلفية ما يقال، وقد ظللت- مع غيري- لا نفقه كثيراً مما يقال حتى التقيت مصادفة بأحد الخبراء الزراعيين قبل فترة حيث قال لي: هل تعلم إن انتاجنا الزراعي في السودان اليوم أقل منه في عام 1962م؟ صعقت، وقلت لعلك تعني في الأسعار؟ قال: كلا، بل الكميات، مثل هذه المعلومة البسيطة عن تدني الانتاج الزراعي رغم الشعارات هي ما لا تطمع أن تحصل عليه من تقارير التلفزيون، ولا أي جهاز إعلامي آخر في السودان.. إنتهى حديث الأفندي.. قلت في نفسي وقتها- إن د. الأفندي يستدل بما يخدم خطه الكلي في الانتقاص من النظام والنيل منه بلا هوادة، ولكنني صعقت مثله لاحقاً، حين تجرعت الحقيقة المُرة.. كنت قد أستبعدت صحة ما أورده، ولكنني بعد أيام فقط شاهدت تقريراً عبر قناة الجزيرة الفضائية، وأحد العناوين المرافقة على الشاشة جاء على النحو التالي: (سلة غذاء العالم العربي يستورد 84% من احتياجاته من القمح)!! وقبل أسابيع قليلة من الآن تحدث الدكتور بابكر علي التوم نفسه (نائب رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان) يقول في حلقة بتلفزيون السودان، تعليقاً على مشروع الموازنة، ومتحسراً على الانفاق الزائد في الاستيراد ضمن انفاق العام الحالي: (إننا أنفقنا أكثر من 700 مليون دولار في استيراد القمح، وأكثر من 500 مليون دولار لاستيراد السكر!! فأدركت- مع حسرة- أن الظن الحسن لا يمكن أن يؤسس موقفاً سليماً صحيحاً لشخص واعٍ يتعاطى الإعلام والمواكبة!! لقد ظل الإعلام يردد الأرقام الحكومية التي تؤكد مضاعفة الرقعة الزراعية في السودان من 20 مليون فدان كانت طوال الحقب التي سبقت الإنقاذ، إلى أكثر من 41 مليون فدان في عهد الإنقاذ! بدون إضافة جهود ما يعرف بالنهضة الزراعية!! وأن هذه المساحات المضاعفة، شملت إدخال المحصول الاستراتيجي (القمح) ضمن الدورة الزراعية بمشروع الجزيرة، ولكنني اليوم محتار: كيف نستنزف مواردنا المالية الشحيحة في استيراد القمح والسكر، بعد أن تضاعفت مصانع السكر والمساحات الزراعية؟ وبعد أن استنهضت الدولة منذ خمس سنوات- وزاراتها ومؤسساتها لهذا الحشد الاستراتيجي الكبير الذي تمت تسميته بالنفرة الزراعية ثم النهضة الزراعية.. واستجلب له الرأي العام! بعد أن انتظرنا نتائج هذا الحشد الكبير، الذي يقوده الرمز علي عثمان محمد طه، بدل أن تأتينا البشارة بأننا اكتفينا ذاتياً وبدأنا في تصدير القمح، وتصدير مجموعة من المحصولات المهمة لسكان الأرض (الأرز ونحوه)، لنطور صادراتنا غير البترولية، بدل أن تأتينا بشريات الصبر على الدعاية المستمرة حول هذه (النهضة) المتضخمة منذ سنوات، جاءتنا الحسرة، بأننا نستورد 85% من القمح مع هذه النهضة الزراعية!! ستظل الحيرة تلفنا مع هذا اللغز المحير، فقد شاهد الناس استثمارات حقيقية تدخل العملية الانتاجية، في مشروع سندس الزراعي الذي انطوى على أحلام كبيرة لسنوات طويلة، منذ التبشير به، ثم بدأت محاصيله تدخل العملية الانتاجية فعلاً منذ أكثر من عامين، وهو ما ينبغي أن ينعكس (وفرة) و (رخاء)، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! وكانت المعجزة الكبرى، مشروع القرن (سد مروي)، الذي جعل الحلوق تهتف مشروخة ولا تبالي في وجه العميل، المكشوف العمالة المعروف بأوكامبو.. الرد الرد.. السد السد.. ولكن لا شيء قد حدث سوى الخبر الصاعق باستيراد 85% من احتياجات الشعب من القمح!! ستلفك الحيرة مع هذا اللغز المحير، وأنت تشاهد تدفق أموال المستثمرين الخليجيين، وعلى رأسهم شيخ الأثرياء في المملكة العربية السعودية الشيخ سليمان الراجحي، واستثماراته الزراعية في القمح بنهر النيل! مع كل هذه القفزات الكبيرة يستورد السودان 85% من احيتاجاته من القمح!! وتحدثنا أخبار المعيشة كل يوم عن تردٍ مؤلم في ظروف الكسب والإنفاق، ووزير المالية مع تقديمه للموازنة مؤخراً يعترف بالتدني المريع في الأجور، ويعترف بضرورة الالتفات لحال الناس وهم يكابدون ظروفهم الصعبة، ويؤكد أن موازنة العام المقبل جاء في تصميمها فك هذا الخناق عن الناس! والوزير الذي تختفي عن ملامحه أي شارات للفهلوة السياسية، ويؤشر سمته على أنه تنفيذي أكثر منه سياسي، وأنه يشبه غمار الناس، قادتني إفاداته الصحفية في يوليو الماضي لصحيفة الإهرام اليوم، إلى أن ما يسميه أهلنا ب (الساحق والماحق) قد تسلل فعلاً إلى موارد الدولة، فما عادت تغني عن كثرة!! وذلك من المقارنة التي عقدها بين منهج عبد الرحيم حمدي وهو يمول بالعجز، ويضخ الكتل النقدية المزيفة، ومنهج دكتور عبد الوهاب عثمان وهو يطبق سياساته الانكماشية في تحدٍ شرس مع الانفلات، والتضخم الذي وصل 160% فجابهه بحزم.. ونواصل الأمين العام لرابطة الإعلاميين السودانيين بالرياض