احتفل السودان في الأيام القليلة الماضية إبتداء من الأول من يناير 2011 بالذكرى الخامسة والخمسين للاستقلال، وأهمية هذه الذكرى أنها الأخيرة والسودان مليون ميل مربع، ويسكنه أربعون مليون نسمة، وموارده مكتملة، وحدوده الدولية من جهة الجنوب مع كل من زائير سابقاً الكنغو الديمقراطية حالياً، ويوغندا، وكينيا، وأفريقيا الوسطى، وأثيوبيا، وسيحتفل السودان في الذكرى السادسة والخمسين ومساحته حوالي ثمانمائة ميل مربع وسكانه ثلاثين مليون نسمة، وموارده قلت، واختفت حدوده كلياً مع كل من يوغندا وكينيا والكنغو الديمقراطية، وبقيت له حدود مقتطعة مع كل من أفريقيا الوسطى وأثيوبيا، وبعد أن كانت حدود السودان مع أثيوبيا هي الأطول قبل الانفصال تأتي حدود السودان الشمالي مع الجنوب المنفصل هي الأطول 1973م كلم حتى في القارة الأفريقية فهي أطول حدود بين بلدين. ظل جنوب السودان شوكة في خصر البلاد كلها منذ تمرد توريت في أغسطس 1955م وقبل رفع علم الاستقلال، وقد لعب الاستعمار البريطاني الدور الأساسي في هذه المشكلة، وذلك بتطبيق قانون المناطق المقفولة في 1922م على جنوب السودان، وجبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق، فمنع بذلك القانون دخول الشماليين اليها إلا بإذن، ومنع القاطنين فيها من أداء الصلاة في فناء الدكان أو الدار، ومنع الجنوبي من ارتداء الجلابية والعراقي والسروال ومن وضع الطاقية على رأسه، ومنع تعليم اللغة العربية، وجعل من الإنجليزية اللغة الرسمية لجنوب البلاد، والعربية في الشمال، فولدت تلك السياسة فوارق اجتماعية بين سكان البلد الواحد مع نشر المسيحية وحجب نشر الإسلام، وهذه السياسة هي التي اشتهرت بها بريطانيا في معظم البلدان التي استعمرتها، فنجد اليوم مشكلة كشمير بين الهند وباكستان، وأفغانستان، وما أدراك ما افغانستان، وما دار من عنصرية في روديسيا في الجنوب الأفريقي في يوم من الأيام، وفي زمبابوي مكان روديسيا الآن، ودفعت بريطانيا الثمن غالياً في حرب جزر الفلوكلاند مع الأرجنتين، ونحن اليوم ندفع الثمن بانشطار بلدنا إلى دولتين بعد خمسة وخمسين عاماً من الاستقلال شهدنا فيها: الراحل عبد الله خليل رئيس الوزراء يسلم السلطة للفريق الراحل إبراهيم عبود في 17/11/1958م بسبب مشكلة جنوب السودان.. تسقط حكومة الفريق إبراهيم عبود في انتفاضة الحادي والعشرين من اكتوبر 1964م بعد ستة أعوام فقط في كرسي الحكم بسبب مشكلة جنوب السودان. إجراء انتخابات عامة في البلاد، والسيد الصادق المهدي يتولى رئاسة مجلس الوزراء، وتفشل جميع المحاولات في حل مشكلة الجنوب، ويستولى الجيش على السلطة في انقلاب عسكري بقيادة العقيد آنذاك الراحل جعفر نميري في 25/5/1969م ويحكم السودان ستة عشر عاماً، بعد أن استطاع توقيع اتفاقية السلام مع حركة التمرد في جنوب السودان، والتي كانت تحت قيادة السيد جوزيف لاقو، وكان ذلك في الثالث من مارس 1972م وتسكن حركة الحرب لعشرة أعوام (إتفاقية إديس أبابا). تنشب حركة تمرد أخرى في مايو 1983م بقيادة الراحل جون قرنق، وتسقط حكومة نميري بانتفاضة أبريل 1985م وقضية جنوب السودان كبرى أسباب سقوطها.. تجري انتخابات عامة في البلاد تجيء مرة ثانية بالسيد الصادق المهدي إلى رئاسة مجلس الوزراء، ولكنها تسقط في انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989م بقيادة العميد الركن عمر حسن أحمد البشير، وتداعيات مشكلة الجنوب من دواعي القيام بالانقلاب العسكري، وتستمر الحرب الأهلية حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا بكينيا في التاسع من يناير 2005م لحقن الدماء، فالحرب الأهلية السودانية استمرت أربعين عاماً، وهي بذلك أطول حرب أهلية شهدتها القارة الأفريقية، وبسبب طول أمدها أزهقت أرواحاً، واستنزفت الموارد، فقلَّت حركة التنمية في القطر بسبب الصرف على معينات الحرب، فألحق الجنوبيون الأذى بالجنوب خاصة وبالوطن ككل. قضية جنوب السودان هي البوابة التي دخلت عبرها تدخلات الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، والمسيحية في الشأن السوداني، فبعد مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم في عام 1965م في عهد الحكومة الانتقالية بعد سقوط عبود تحت رئاسة الراحل سر الختم الخليفة، لم ينعقد أي مؤتمر آخر لحل قضية جنوب السودان والقضايا الأخرى، التي ظهرت بعدها في السودان، سوى مبادرة أهل السودان في كنانة لقضية دارفور، فصارت البلاد تبحث عن حل لقضاياها في بريطانيا والسويد، والمانيا، وفرنسا، وفي نيجيريا وأثيوبيا، وكينيا، ودولة قطر، تحت ضغوط وتأثيرت دولية، ونرى اليوم في السودان المستر جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي يزور البلاد للمرة الثالثة في أقل من ثلاثة أشهر ولبلاده المبعوث غرايشون، ومبعوث آخر تم الحاقه بدرجة السفير، وسفارة مقيمة ورئيس سابق للولايات المتحدةالأمريكية جيمي كارتر، وأمين عام للأمم المتحدة يتدخل، وأمين عام الجامعة العربية، ومفوضيات الاتحاد الأفريقي ومندوبين خاصين لعدد من الأقطار، ومجموعة دول الإيقاد، وأخرى أسمت ذاتها أصدقاء الإيقاد، وتتضح الصورة أكثر بالكم الهائل من المراقبين الذين حضروا مجريات محادثات السلام في نيفاشا، وبانفصال الجنوب تختفي مطرقة كبيرة كان يتم بها الضرب على رأس السودان. شهد الجنوب في الخمس سنوات الماضية- والتي استقر فيها بالتوقيع على اتفاقية السلام الشامل- مشاريع تنموية عديدة بدعم من الحكومة الاتحادية في مجالات التعليم العالي منه ودون العالي.. الثانوي والأساس في جميع ولايات الجنوب العشر، وكذا في الخدمات الصحية بتشييد مراكز صحية ومستشفيات، وتدريب كوادر، وإمدادات الدواء ومعينات العلاج، وحدث إنفراج في وسائط النقل بشق الطرق وتعبيدها، وبوصول القطار إلى مدينة واو من بابنوسة بعد توقف دام لعشرات السنين بسبب الحرب، وتحسنت إمدادات المياه الصالحة للشرب، وخدمات في الكهرباء والبنية التحتية للاتصالات، وبناء الكباري في الكثير من مدن الجنوب، ومطارات للنقل الجوي في ملكال وجوبا، ومهابط في مدن أخرى، وبعد هذا كله منعت حكومة الجنوب قيام الدورة المدرسية الثانية والعشرين في بحر الغزال في أواخر ديسمبر من العام الماضي 2010م، فبماذا إذن تكون الوحدة جاذبة!؟. إن الهرولة الدولية لفصل الجنوب ما هي إلا من أجل إضعاف السودان في مساحته، وفي سكانه، وفي موارده، وليس حباً في الجنوبيين، والولايات المتحدةالأمريكية رائدة هذه الهرولة ستتخلى عن الجنوب كما هي عادتها. السفير