لست إلا واحداً من الملايين الذين أحبوا دارفور - الكبرى - بعد أن عرفوا بعض ملامحها وتاريخها وأهلها، بدأت علاقتي العضوية بهذا الإقليم ذي التميز والخصوصية منذ أن كنت في المرحلة الثانوية، حيث كانت المدارس تنظم رحلات داخلية وخارجية لطلابها.. وقد أحببت دارفور منذ ذلك الوقت، وقويت علاقتي بها مع مرور الأيام وأصبحت في بعض الأعوام أتردد عليها ما بين ثلاث إلى أربع مرات، وأشعر برباط قوي يربطني بكل دارفور، وكنت أحد الذين أسهموا في التوثيق لأزمة هذا الإقليم «المسحور» مع مجموعة من الزملاء، عندما كلفنا المركز السوداني للخدمات الصحفية بإعداد كتاب عن دارفور حمل اسم «دارفور.. الحقيقة الغائبة»، وقد نفدت طباعاته الثلاث وتمت ترجمته إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وقد تابعت الترجمة إلى الفرنسية بعد أن طلبت من أخي وصديقي سعادة السفير هاشم السيد أن يقدم لنا تلك الخدمة الجليلة، وقد فعل مشكوراً ذلك بأعلى درجات المهنية. عادت دارفور مجدداً إلى عقلي وقلبي من خلال متابعتي لما جرى على أرضها وميادينها قبل يومين، وأعني بذلك التوقيع على اتفاق بين الحكومة وحركة تحرير السودان «القيادة التاريخية»، وهي مجموعة منشقة عن الحركة الأم التي يقودها الأستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور، وهي كما يقول قائدها الدكتور عثمان إبراهيم موسى الحركة الفعلية الموجودة في الميدان، وهو طبيب بيطري لم أتشرف بلقائه، لكنني سعيت لمعرفة التفاصيل من أكثر من جهة، خاصة وإن الاتفاق الموقع بين الحكومة الاتحادية والفصيل المنشق في منطقة «بلي السريف» شرق جبل مرة، تم بحضور وشهادة ممثلين للسلطة الانتقالية والأجهزة الأمنية واليوناميد بدارفور. أجريت اتصالاً هاتفياً بالدكتور أزهري التجاني وزير الإرشاد والأوقاف ممثل الحكومة الاتحادية في هذا الأتفاق لأعرف منه تفاصيل ما جرى، لأن حدود معرفتي كانت في مشاركة الشرتاي جعفر عبدالحكم رئيس السلطة الانتقالية لولايات دارفور ووالي غرب دارفور، إضافة إلى مشاركة الدكتور عبد الحميد موسى كاشا والي جنوب دارفور والسلطان إبراهيم يوسف علي دينار سلطان عموم الفور. حقيقة لم يخيِّب الدكتور أزهري التجاني ظني، ولم يبخل عليّ بالمعلومات والتفاصيل رغم ظروف الإرهاق والسفر والبرد التي انعكست على صحته وصوته، فقد ذكر أن منطقة «بلي السريف» تعتبر منطقة «حاكمة» في بوابة جبل مرة الشرقية، وكانت من المناطق الآهلة بالسكان من أهلنا الفور، إلا أن الحرب أحالتها إلى خراب، وأطلال و «درادر» متفرقة، وانتقل بعض أهلها إلى عدد من معسكرات النزوح، وأصبح هناك اتصال يومي وراتب بين الحركةالمتمردة وبين النازحين في المعسكرات، وأن أكثر الاتصالات كانت تتم من «بلي السريف» حيث القوة الميدانية الحقيقية لحركة تحرير السودان، وهي القوة التي وقعت على الاتفاقية مؤخراً مع الحكومة ويقودها الدكتور عثمان إبراهيم. قال لي الدكتور أزهري التجاني إن المنظر العام كان مؤثراً والموقف أشد تأثيراً لحظة وصولهم إلى هناك، إذ توافدت عليهم عربات القوة الميدانية «العسكرية» وجاء أفرادها مدججين بالسلاح وكان عدد الأفراد يتجاوز الأربعمائة مقاتل، لكن المحزن حقاً والأكثر تأثيراً كان ظهور ثلاثمائة طفل في سن الدراسة، جاءوا حفاة عراة مغبرين كأنما انشقت الأرض عنهم، ومن خلفهم ظهرت أكثر من مائتي امرأة، بعضهن حمل لافتات تحمل عبارة واحدة هي «لا للحرب».. وكانت لحظة الخطابة هي الأشد تأثيراً، لأن كل من تحدث بكى.. وأبكى غيره. أعظم ما في تلك الرحلة التي تنم عن شجاعة كل الذين اشتركوا فيها وشاركوا من كل الأطراف.. هو الاتفاق الذي انبنى على ما قال به الدكتور عثمان إبراهيم، وهو التأكيد على أنهم القوة الميدانية الحقيقية، وأن حركتهم تعني الميدان والأطفال والنساء والأرض، وتأكيدهم على عدم السماح لأي شخص مهما كان في الداخل أو الخارج باستغلالهم لمصلحة خاصة أو خدمة لأجندة خارجية، وأنهم سيحمون الجبل بسلاحهم الذي سيوجه لكل داعية لحرب أو قتال، وأنهم سيعملون على إعادة الأهالي إلى قراهم، وأن همهم سيكون هو الحوار والإعمار مثلما هو هم الدولة. تأثر الدكتور أزهري التجاني وهو يقص عليّ تفاصيل ما جرى، وقال إن أهالي «بلي السريف» قدموا لضيوفهم بعض منتجات الجبل ممثلة في طماطم وبصل على صينية ألمونيوم لامعة مع عبارات مثل: «الجبل ده لو زرعو فيهو زول يقوم».. الوزير أزهري التجاني تبرع بكامل مرتب يناير الجاري لأهالي المنطقة لشراء طوب لتبدأ بعد ذلك حملة الإعمار.. فقد بدأ الزرع ينمو.. مبروك.