في الأيام الفائتة قامت مؤسسة الرئاسة بسحب وفد التفاوض أو المنتخب القومي للتفاوض- كما يحلو لنا أن نسميه- من منبر الدوحة، واعتبار منبر الدوحة آخر فرصة للحركات المسلحة من أبناء دارفور، ولو أحتكمت الحكومة لرأي العقل لربما نجح المنتخب التفاوضي في الوصول إلى الحل الذي يرضي القادة من أبناء دارفور، مع العلم بأنه لا يوجد طريق أمام هذه الحركات بعد أن مارست فشل فرض القوة والحلول بالسلاح، لابد لها أن ترجح كفة التفاوض لتضع حلاً راسخاً لهذه المسألة.وحتى لا يتكرر السيناريو الذي بقي عبئاً على الحكومات المتلاحقة، وهي مشكلة جنوب السودان والصراعات بين القبائل منذ فترة ما قبل الاستقلال، في هذه الفترة شهد الجنوب ثورة خطيرة قام بها أبناء جنوب السودان، وهم خليط من القبائل استغلوا فترة قيام الدولة الوليدة وهم ينادون بتبديل الأحوال السيئة، والتهميش، والتميز، وسوء التنمية، بمساعدة بعض الدول المجاورة للسودان وزعزعة الأمن الداخلي، وفرض العقوبات الاقتصادية، وقد وصل هذا الضغط إلى إستهداف السودان. وقد فشلت كل المحاولات في القضاء على التمرد في جنوب السودان، إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ وقامت بابرام الاتفاقية الشهيرة، وإعطاء الجنوب حق تقرير المصير في فترة وجيزة لإطفاء نار الحرب التي امتدت لسنوات طويلة.ومن الملاحظ في الفترة الأخيرة فتور العلاقات الدبلوماسية في السودان، مما أدى إلى حصر السودان في بوتقة ضيقة، وعدم تأثيره على الدول الكبرى، إلا الدول التي تربطها مصالح مع السودان، ويرجع ذلك إلى عدم اكتراث القائمين بأمر وزارة الخارجية في شكلها الجديد، وأثبتت هذه الفترة من الانتخابات الأخيرة إلى الآن عدم كفاءة القائمين بأمر الوزارة، وضعف صلاتهم وعلاقاتهم الخارجية، وعليه نرجو من الدولة مراجعة سياساتها وعدم إعطاء وزارات لتمثل الثقل السياسي والدبلوماسي وهيبة الدولة بدون تخطيط وتمحيص.. ومن ناحية أخرى نريد أن نتعرض إلى مسألة مهمة هي بعثات وفود التفاوض عند قيام الدولة الإسلامية، وعندما كانت الدولة وليدة العهد أسست لقواعد وأسس مهمة.. لم يكن العمل الدبلوماسي أمراً دخيلاً على الإسلام إنما هو من مبادئه الأساسية، وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، وهذه الآية مثلت الأساس الذي سار عليه الرسول عليه الصلاة والسلام مع العالم والمفاوضة مع من حوله آنذاك، وهي التي يجب أن تسير عليها حكومة السودان والمسلمين من بعده، حتى تنجح في قيام دولة حديثة متقدمة خالية من الحروبات الأهلية والصراعات القبلية، تدير أمورها بالحوار لا بلغة التهديدات، ونأمل من القائمين على سدة الحكم في البلاد أن يغيروا من لغة التهديدات والوعيد التي تجر البلاد إلى نفق مظلم، لا يحمل وزرها إلا أبناء هذا الوطن، ومازاد الطين بلة هو اتفاقية أبوجا التي أتت رياحها بما لا تشتهي السفن في الأيام الماضية، حيث أدت الاتفاقية إلى حدوث فجوة بين بقية الحركات الأخرى وإصرار الحكومة على التوقيع من طرف واحد، انتج ما وصلت اليه هذه الحالة تشتت الحركات، ولكن على الرغم من الجد والشجاعة التي أبداها أعضاء الوفد المفاوض في الدوحة إلا أن كفاءتهم وخبرتهم ومقدراتهم كانت ضعيفة ولم تصل إلى اتفاق يرضي حتى الحكومة نفسها. على الدولة أن تهتم اهتماماً كبيراً بتنظيم جيوشها وحماية حدودها وتأمين نفسها، وتجنب الوقوع في صراعات عسكرية، وبذلك توفر طاقات بشرية واقتصادية كبيرة، ذلك أن السلاح الذي هو وسيلة من وسائل حماية الإنسان هو بكل تأكيد ليست الوسيلة المفضلة في تحقيق الأمن والسلام، وما تعجز الحرب عن تحقيقه في سنوات عديدة يمكن للدبلوماسية أن تحققه في أيام معدودة. هناك مقولة أوردها الشريف زين العابدين الهندي لكي تكون قاعدة مهمة في تاريخ السودان الحديث وللأجيال المتعاقبة في حكم السودان، ونأمل أن تضعها الحكومة كورقة تفاوض لكل الحركات المتمردة يقول فيها (تاريخ السودان يقول أنه دولة.. قامت بالتراضي.. وعلى التراضي.. ولن تكون إلا به) وهذا هو الأساس الذي قامت عليه دولة السودان. مدينة الحوش- جنوب الجزيرة