السودان بكل أطرافه يعيش أجواء حمى الاستفتاء ونتائجه.. متوقع أن يفاجأ الجميع بمستجدات، فإذا جاءت نتيجة الاستفتاء المرتقب عكس ما يتمناه دعاة الوحدة باعتبارها حتمية تاريخية واختار الجنوبيون الانفصال عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة وبعيداً عن التلاعب واستخدام نفوذ مراكز القوة، فطبقاً لتجربة الانتخابات العامة التي أجريت بالجنوب في أبريل الماضي استخدمت الحركة الشعبية نفوذها واستغلال سلطتها وبثت الرعب والتخويف في نفوس الناخبين، وشاب التجربة تشوهات عديدة.. السؤال هنا: هل بمقدور الجنوبيين رسم ملامح دولة تجيد السباحة في بحر متلاطم الأمواج؟ اتفاق نيفاشا كشف القدرات الأساسية للكوادر الجنوبية، وكشف أن الجنوب بعد مضي أكثر من خمسة عقود يفتقر كثيراً إلى الكادر المؤهل الذي يعول عليه لبناء دولة مكتملة تنضم إلى صفوف المنظومة العالمية.. وهذا يؤكد أن هناك خمس سنوات ضاعت على الجنوب دون حدوث أي عمل تنموي ملموس يفيد المواطن الجنوبي، الملاحظ أن الكوادر التي ظهرت بعد نيفاشا وتقلدت مواقع قيادية سواء في الحكومة الاتحادية أو حكومة الجنوب عجزت عن إبراز أي مقدرات لغرس دعائم التنمية بالجنوب ولم تثبت أنها كوادر تستطيع أن ترسم سياسات وبرامج وخطط لتنفيذ مشاريع بنية تحتية أو مشروعات للتنمية بأرض الجنوب لتحسين الأحوال المتردية والمتخلفة بولايات الجنوب المختلفة. حقيقة الأمر أن القيادات الجنوبية انشغلت بقضايا أخرى وسجالات سياسية وظلت تلقي باللوم على حزب المؤتمر الوطني شريكها بالحكم التي هي جزء منه، وأن المؤتمر الوطني عطل مشاريع التنمية بالجنوب، بينما أن بند تقاسم السلطة والثروة أفرز ميزانية منفصلة وخاصة بالجنوب، لكن أموالها لم تستغل الاستغلال الأمثل، ولم توجه الأموال المخصصة للجنوب لإقامة مشاريع التنمية والنهضة والحداثة.. كل الدلائل والمؤشرات تؤكد أن الجنوب استلم نصيبه المخصص من الثروة بالتمام والكمال ولا مجال لتوجيه أي اتهام إلى المؤتمر الوطني بأنه سبب في تأخير أعمال التنمية بالجنوب.. وهنا يفسر المحللون السياسيون أن ضياع خمس سنوات من عمر اتفاق نيفاشا يعزى إلى أن القيادات الجنوبية أهملت الجانب التنموي والاستثماري وركزت على قضايا سياسية وتراشقات ومكايدات مع شريكها بالحكم. { إن الحركة الشعبية هي الأكثر تضرراً الآن جراء الوضع المتردي الذي يعيشه الجنوبيون، وكان لزاماً على الحركة الشعبية وهي تفكر في تكوين دولة وليدة.. أن تراجع حساباتها وتجيب على السؤال ماذا فعلت في الخمس سنوات الماضية، فدولتها الوليدة ستولد بدون أي مقومات رئيسية، باعتبار أن الجنوب منذ أن وجد ارتبطت مصلحته وبقاؤه مع الشمال في كل الحكومات والعهود السابقة، فكيف يعيش الجنوب بعد الانفصال بدون إمدادات الشمال التي تعود عليه دائماً، أما دول الجوار هي أيضاً تعتمد على ما يصدره الشمال للجنوب «إذن فاقد الشيء لا يعطيه»، ومنذ عقود من الزمان وحتى الآن ظلت دول الجوار الحالية يعتمد سكانها في معشيتهم على ما يأتي من الشمال من حاجات ضرورية في كافة مجالات الحياة. الشمال متمثل في حكومة الخرطوم يملك القوة وإرادة التصدي لأي معتد، ولعل المهددات والتحديات والصعاب التي واجهتها أثبتت مقدرتها على التعامل مع التحديات بالرغم من شراستها وقوة مفعولها، وأن الحركة الشعبية مع أنها شريك للحكم، كان من المفترض أن تقف بجانب شريكها المؤتمر الوطني في التصدي لكل المؤامرات التي كانت تحاك ضد الوطن وضده. عموماً نعول على قيادات الحركة الشعبية وصقورها الذين ما زالوا يصرون على المضي في طريق الانفصال وتكوين دولة تحكم وتدار بكوادر جنوبية خالية من أي عنصر شمالي، عليهم أن يدركوا حقيقة واحدة أنهم لم يقرأوا التاريخ جيداً، وأن بناء الدولة يتطلب أولاً وجود الكادر البشري المؤهل لذلك.. وأن الأوطان يبنيها بنوها وأن الاعتماد على العنصر الأجنبي لن يأتي إلا بكيان هش وضعيف تقضي عليه نسمة هواء وهو حديث الولادة، السؤال المهم والذي يحتاج لإجابة قبل الاستفتاء: مع أن الوقت قد اقترب لكن ما زالت هناك فرصة لمراجعة النفس والتفكير بعيداً عن أعين الغرباء والأجانب، ضرورة مراجعة القيادات الجنوبية أنفسهم، هل بمقدور غلاة الانفصال رسم ملامح دولة تقف على أرجلها.