نعود اليوم مجدداً لمتابعة التطورات التي تشهدها تونس بعد نجاح الثورة الشعبية في الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، تطورات تنبع أهميتها في ماتنطوي عليه من احتمالات مفتوحة على أكثر من مآل، فبعد تسعة أيام على رحيل بن علي الذي فاجأ حتى الشعب المنتفض نفسه، مثلما فاجأ القوى المحلية السياسية والنقابية، والقوى الإقليمية والدولية في آن، فإن الحراك السياسي باتجاه الانتقال من الأوضاع السابقة لتأسيس الواقع الجديد لايزال يتسم بالجمود والمراوحة والارتباك الباعث على المخاوف والقلق. بواعث المخاوف والقلق تنبع من انقسام الرؤى بين الأحزاب السياسية والنفايات ونشطاء المجتمع المدني، المصنفة في خانة المعارضة للنظام السابق، حول ما يجب عمله في مرحلة الانتقال التي تشهدها البلاد، والتي أفرزها ذلك الانتقال المفاجئ للرئيس المخلوع ونظامه بحلول الرابع عشر من يناير الحالي، والذي خلف حكومة جل أعضائها ينتمون لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي التاريخي، الذي ورث قيادته بن علي خلفاً لبورقيبة، والذي يشكل استمرار بعض وجوهه في الحكم شكوكاً لا تخلو من وجاهة بنظر المعارضين، لأنه يؤسس لاحتمال مصادرة مكاسب الثورة والالتفاف على أهدافها المعلنة في الانعتاق، واستعادة الحرية والديمقراطية والعدالة المنشودة، في وقت يرى فيه معارضون مشهود لهم بالتصميم الوطني والكفاح أن ما تحقق حتى الآن من انجازات ومكاسب يمثل خطوة كبيرة لابد من الحفاظ عليها، من خلال القبول بحكومة مؤقتة والتواضع على فترة انتقالية محددة، يتم أثناءها التأسيس لمطلوبات التغيير بالإعداد لانتخابات حرة ونزيهة، وتنقية القوانين من المواد المقيدة للحريات، وإجراء المحاسبة والملاحقة القانونية لرموز الفساد، ومرتكبي جرائم القمع وحقوق الإنسان. فبينما لايزال الشارع التونسي يغلي بالتظاهرات المطالبة بحل حكومة الوزير الأول محمد الغنوشي وحل الحزب الحاكم، برغم كل الوعود (السخية) التي بذلها الغنوشي ووزير داخليته، وبرغم انضمام شريحة من قوى الأمن لمطالب المتظاهرين، فإن معارضين في وزن أحمد الشابي زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي، لايزالون يعبرون عن خشيتهم من استمرار التظاهرات وحالة عدم الاستقرار التي تشكلها، فقد عبر الشابي الليلة الماضية عن مخاوفه من استمرار هذه الحالة التي قد تقود الجيش للتحرك لاستلام السلطة، ونكون بذلك قد قضينا على مكسب أساسي دأم أكثر من خمسين عاماً من (النظام المدني)، الذي جعل الجيش يقف على الحياد، كجيش محترف يحترم الدستور وينأى بنفسه عن العمل السياسي.. وأوضح الشابي أن الناس عادوا في معظمهم إلى أعمالهم، وأن التظاهرات تعبر عن رغبات نخب وأحزاب ذات توجهات ورؤى سياسية معينة، وليس عن الشعب التونسي في مجمله. لكن رأي الشابي وحزبه، الذي عبرت عنه أيضاً الأمينة العامة للحزب مي الجريبي- يصطدم برؤية بعض أهم النافذين في اتحاد الشغل، الذي ينسب إليه مواكبة إن لم يكن قيادة الفعاليات الكبيرة أثناء الثورة الشعبية، والذي استقال وزراؤه الثلاثة في حكومة الغنوشي، فعبد الجليل البدوي الوزير المستقيل ضمن الثلاثة يقول: إن أهم الحركات الرافضة لاستمرار تلك الحكومة هي الحركة النقابية وإطاراتها، وأن موقع اتحاد الشغل الطبيعي هو أن يكون مع المحتجين الذين يرفعون مطالب هي في صلب برنامج الاتحاد ومهامه، وأن الاتحاد أيام بن علي كان في وضع دقيق يتطلب منه الحفاظ على شرعيته، ولم يكن له أن يقطع مع النظام بشكل كامل، لأن ذلك يعني القضاء على شرعيته وحتى جوده، كما أنه لم يكن ليحل محل الأحزاب في المواجهة السياسية المكشوفة للنظام، ولذلك كانت استمراريته للدفاع عن المطالب الاجتماعية التي هي واجبه وشغله الأساسي كان مكسباً في حد ذاته، ولكن عندما تصاعدت هذه المطالب واتخذت صورة المواجهة السياسية، لم يتوانى الاتحاد في دعمها وتطويرها حتى أطاحت بالنظام، وذكر البدوي بأن الاتحاد بدأ عمله حتى قبل الاستقلال، وشارك في أول حكومة وطنية بما يقارب النصف مع القوى السياسية الأخرى، وفي مقدمتها الحزب الدستوري بقيادة الرئيس بورقيبة، والآن عندما قبل المشاركة في الحكومة الانتقالية كان هدفه هو أن يمثل ضمانة للانتقال إلى المسار الديمقراطي، ولكنه فوجئ أن التشكيلة الجديدة للحكومة يهيمن عليها وزراء العهد القديم، الذين أسندت لهم أهم الحقائب الوزارية، لذلك فضل الانسحاب والانضمام للداعين لقيام حكومة إنقاذ وطني تؤمن التحول الديمقراطي وتحاسب المفسدين. من حيث الواقع، فإن حكومة الغنوشي، الذي استقال هو والرئيس المؤقت فؤاد المبزع من الحزب الحاكم السابق، قد اتخذت خطوات مهمة باتجاه تأكيد رغبتها في القطع مع ممارسات العهد البائد، فبالأمس فقط أعلن عن وضع بعض أهم معاوني بن علي تحت طائلة الإقامة الجبرية منهم عبد العزيز ضياء المستشار الرئاسي، وعبد الله القلال وزير الداخلية السابق، غير من سبق توقيفهم من أقرباء بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، ونافذين آخرين من النظام السابق، كما يشكل إعلان الغنوشي عن فك الارتباط بين الحزب الحاكم السابق وجميع الأحزاب، وبين الحكومة مقدمة ضرورية لمثل تلك التوجهات المطلوبة، خصوصاً بعد الإجراءات العملية التي اتخذت لتجريد الحزب الحاكم من المكاسب والميزات الاستثنائية التي كان يتمتع بها في عهد الرئيس المخلوع على حساب ممتلكات الدولة وأموالها.. وفي هذا تفيدنا تصريحات الأمين العام لحزب التجمع الدستوري محمد الغرياني، التي أعلنها عبر الفضائيات أمس من أنهم بدأوا في تصفية الحزب من الشوائب والتجاوزات وتطهير صفوفه من الانتهازيين، بحيث يصبح (الحزب في حجمه الطبيعي)، ويستجيب لرياح التغيير التي انتظمت البلاد بغض النظر عن النتيجة، بما في ذلك تصفية ممتلكات الحزب غير الشرعية، وقال إن الحزب (كحزب) لم يكن يحكم، وإن الانحرافات والتجاوزات كانت صادرة في الأساس من الرئيس بن علي وأعوانه وخاصته المقربين، وليس من الحزب كمؤسسة سياسية. إذن، فإن تونس اليوم تشهد انقساماً وصداماً وتناقضاً في رؤى الطبقة السياسية، التي من المفترض أن ترشد الشارع الثائر بعفوية إلى الطريق الأقوم والأقصر والسالك لانجاز أهداف الثورة المتمثلة في الكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة، تلك الشعارات التي رفعها الشارع، لكنه لا يعلم- بالضرورة- كيف يتم تأطيرها وبلورتها في الوقت المناسب والوقت المناسب ضروري، لأن تطاول الوقت واستمرار حالة عدم الاستقرار قد تفتح الباب لأعداء الثورة لينجزوا و(يوضبِّوا) تدبيراتهم المضادة، ولابد أن جهات عديدة إقليمية ودولية تعمل الآن وتخطط للمداخل الضرورية لانضاج تلك التدابير التي برز من بينها حتى الآن احتمال (الانقلاب العسكري) بحجة القضاء على الفوضى و(عودة الاستقرار)، بعد أن تواترت الأنباء عن اجتماعات (للقيادة العسكرية)، وإن لم يرشح محتواها إلى العلن، ولكن مجرد خبر (اجتماع العسكر) يوحي بالتشاؤم.. وذاكرة التاريخ تنطوي على أحداث مثل الانقلاب على حكومة مصدق وعودة الشاه محمد رضا بهلوي إلى إيران وربنا يستر!.