نغادر اليوم لبنان، المنتظر لصدور «القرار الظني» من محكمة الحريري الدولية، وهو انتظار على جمر القلق والتوتر، فظهور جماعات من شباب حزب الله يتمخترون عُزلاً من غير سلاح في شوارع بيروت أمس، كانت كافية لإثارة الذعر في أوساط المدينة وسكانها المترقبين لدورة جديدة من القتال والخراب. نغادر لبنان عبر شواطئ المتوسط الشرقية لنرسو مرة أخرى في «تونس الثورة»، فالثورات فعل جاذب للأنظار والأقلام، الثورات تكسر دورة الحياة الرتيبة، لأنها في معناها الأعمق هي إعادة نظر في مكونات هذه الدورة وصيرورتها التي لم تعد مقبولة، ودائماً لا تخلو إعادة النظر هذه من تكاليف محفوفة بالدماء والدموع، خصوصاً عندما يتشبث القدماء بقديمهم ويتواطأوا على إبقاء مكاسبهم التليدة. فقد خرج الناس إلى شوارع تونس العاصمة والمدن الأخرى بالأمس (الثلاثاء)، يتدافعون بالمناكب ويواجهون بصدورهم العارية الدرك وقوات الشرطة والأمن رافضين محاولات الالتفاف على مكاسب ثورتهم التي أطاحت ببن علي وأزلامه، ومطالبين بحكومة انتقالية جديدة معبِّرة عن آمالهم وطموحاتهم في عهد جديد يرعى حقوقهم في التحول الديمقراطي والعدل والحرية، حكومة لا تعيد الوجوه القديمة إلى الواجهة من جديد. وكما قلنا في إضاءة (الثلاثاء) حول «سيناريو اليوم التالي وآلام الانتقال»، فإنه ما أسهل تفجير الثورات ولكن ما أصعب المحافظة عليها، وإنه سيبقى على القوى الحريصة على التغيير المحافظة على قوة الدفع الديمقراطية التي فجرتها الثورة الشعبية بالمزيد من التنظيم والاتصال بالقواعد الشعبية وتحريكها المستمر باتجاه الأهداف المنشودة، وهذا ما حدث، وكانت شواهده كما يلي: خرجت قوى الثورة الحية تملأ الشوارع من جديد، وتطالب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، الوزير الأول محمد الغنوشي والرئيس المؤقت فؤاد المبزع بالاستقالة، واحتجت على تشكيلة الحكومة الجديدة التي ترجحت فيها كفة حزب التجمع الدستوري الحاكم بقيادة الرئيس المخلوع، بثمانية وزراء، تولى أربعة منهم الوزارات السيادية الأهم -الخارجية والداخلية والدفاع والمالية- مع إعطاء بعض الوزارات الهامشية لممثلي ثلاثة من أحزاب المعارضة، هي التكتل من أجل العمل والحريات وحركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي واتحاد الشغل، ورأت الجماهير أن في هذه التشكيلة - وبرغم أنها انتقالية ومحددة بإطار زمني قصير (6 شهور)- إلا أنها تمثل في جوهرها مقدمة لمصادرة تدريجية لمكاسب الثورة، فتلك الجماهير لا تأمن لمن كانوا في زمرة بن علي أن يخلصوا النية في تنفيذ مطالب الثورة ومطلوبات التغيير الديمقراطي، بالإشراف على تنقيح الدستور والقوانين وعلى تشكيل لجنة انتخابات مستقلة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة. هذه الهبة الجديدة مثلت ضغطاً على الرئيس المؤقت «المبزع» والوزير الأول (الغنوشي) فقدموا تنازلاً جديداً، قد يجنبهم الاضطرار للاستقالة التي يطالب بها التونسيون المنتفضون، فقدموا استقالاتهم من حزب التجمع الدستوري الحاكم السابق، كما أقالوا من عضوية الحزب ذاته رئيسه المخلوع زين العابدين بن علي وثلة من أقرب معاونيه ممن اشتهروا بالقمع والفساد، وهي خطوة اُعتبرت من قبل العديدين مجرد تكتيك متأخر لجأ إليه هؤلاء في الساعة الخامسة والعشرين. وتحدث الغنوشي إلى قناة «العربية» عن ما تعرضوا له -هو وبعض وزرائه المستمرين- في الحكومة السابقة ابان الفترة الأخيرة من حكم بن علي لضغوط كبيرة بالنظر لإصرارهم على المحافظة على المكاسب الوطنية المهمة، وجدد وعده بالحرص على تطبيق القانون ومحاسبة الذين ارتكبوا جرائم وتجاوزات في حق الشعب، وإطلاق جميع مساجين ومعتقلي الرأي، وقال إنهم لديهم أجندة واضحة المعالم في المجال السياسي وهم على التزامهم بتطبيقها في الفترة المحددة، وإن القوانين ستُغير بما يتوافق مع مطالب الشارع والقوى السياسية، إلا إذا كان المحتجون يريدون القضاء على «الدولة التونسية» لصالح أجندتهم الخاصة.. تظاهرات الثلاثاء أجبرت بعضاً ممن وافقوا من أحزاب المعارضة على الانخراط في حكومة الغنوشي الجديدة على التراجع، خصوصاً ممثلي اتحاد الشغل ومنهم حسين الديماسي واثنين من زملائه، بينما جمَّد وزراء حركة التجديد وحزب التكتل من أجل العمل والحرية «مصطفى جعفر» مشاركتهم إلى حين إعادة النظر في تركيبة الحكومة، وكانت مَيْ الجريبي، الأمينة العامة للحزب الديمقراطي التقدمي المعارض ووزيرة التنمية في الحكومة الجديدة، هي الوحيدة التي تمسكت بالاستمرار، وبررت ذلك بقولها إنها حكومة انتقالية بمدة زمنية محدودة وأجندة معلومة ومكلفة ببرنامج مُحدَّد بتغيير القوانين والإصلاح السياسي الذي لا يستبعد أحداً وبالإعداد للانتخابات عبر لجنة مستقلة ومراقبة دولياً، وذلك حتى لا تتعرض البلاد لفراغ دستوري يمهد للفوضى ويطيح بالمكاسب التي تحققت حتى الآن. أما توفيق عوادي ممثل التجديد، فاحتج بأنهم جمدوا مشاركتهم لأنه «غُرر بهم» -على حد تعبيره- ولم تُعرض عليهم جميع أسماء المشاركين في الحكومة، ليكتشفوا فيما بعد أن أغلبيتها قد جاءت من رموز الحزب الحاكم السابق. هكذا إذن، نجد أنفسنا -كمتابعين- بإزاء تطورات جديدة في تونس، تطورات أهم ما فيها هو إصرار شباب تونس الثائر على الإمساك بقضيته بأيديه، وعدم ترك الأمور لترتيبها وفق ما يرى المتنفذون السابقون في نظام بن علي، في وقت بدأت طلائع المناضلين السابقين ضد نظام بن علي في العودة إلى البلاد والانخراط في الفعل الثوري على الأرض، حيث وصل بالأمس قادماً من باريس المنصف المرزوقي رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية إلى البلاد، وسط استقبال حاشد، مؤكداً بدوره على مطالب الجماهير بأن لا عودة لرجال بن علي، ولا استمرار للدكتاتورية بعد رحيل الدكتاتور، وذلك في وقت استهدفت فيه الجماهير مقرات الحزب الحاكم السابق وطالبت باستعادة ممتلكات الدولة التي سيطر عليها الحزب إبان فترة حكمة وسطوته. إن استقالة الرئيس المؤقت والوزير الأول من حزب التجمع الدستوري وإقالة بن علي من رئاسته، تبدو لكل مراقب بمثابة المؤشر الأوضح على ارتخاء قبضة النظام السابق، وأن الحرس القديم أخذ يتهاوى يوماً بعد آخر تحت ضربات الثوار وإصرارهم على المحافظة على قوة الدفع باتجاه التحول الديمقراطي الحقيقي، وانتباههم الشديد لمحاولات الالتفاف على مكاسب الثورة الشعبية، مما يوحي بقوة بأن ليل تونس كاد أن ينجلي وأنها على وعد مع صبح جديد.