في لقاء أجراه الدبلوماسي خالد موسى مع السيد علي كرتي وزير الخارجية، جاءت إشارات واضحة حول عدم تعويل الحكومة كثيراً على تغيير الموقف الأمريكي تجاه السودان.. مستشهداً بعدم الالتزام الأمريكي منذ إدارة بوش بعهودها تجاه الخرطوم.. هي نفس الإشارة للسيد رئيس الجمهورية في لقائه مع قناة الجزيرة الذي أدارته غادة عويس عندما ذكر أن السياسات الأمريكية كانت عصا بلا جزرة.. وهي نفس الصورة في المخيلة السودانية عامة.. خاصة لدى جيل الشباب الذي لم يلمس غير ذلك طيلة العشرين سنة الماضية. وعلى الرغم من إشارة وزير الخارجية عبر التلفزيون مساء الاثنين الماضي، فقد جاءت صحافة الخرطوم صباح نفس اليوم تحمل تصريحاً لذات الوزير يشير إلى فتح باب التبادل الثقافي والتعليمي مع الولاياتالمتحدة وإرسال وفود ثقافية وفرق رياضية لإعطاء صورة إيجابية عن السودان وتمهيد الطريق أمام التطبيع بعيداً عن التعاون السياسي.. وذهب بأكثر من ذلك في حديثه لدى لقائه بالمبعوث غرايشن بإشارته إلى إجراء الترتيبات لتشكيل لجنة مشتركة لمناقشة معالجة الديون السودانية وتطوير العلاقات الثنائية ورفع التمثيل الدبلوماسي. بصراحة لا أجد تعارضاً أو انفصاماً بين حديث الوزير الصحفي مع التلفزيوني.. ولا تناقض مواقف بحيث يكون لكلمقام مقال.. فالمتتبع لمسيرة العلاقات بين البلدين فهي في حالة توتر دائم كانت نتائجه مواقف أمريكية عدائية على الدوام أفضت إلى مقاطعة اقتصادية ثم إلى فرض عقوبات ووضع السودان ضمن لائحة الدول الداعمة للإرهاب. فالرأي الرسمي الذي لا يثق في التزام أمريكا بتعهداتها تجاه السودان لا يجب أن يظل على موقف ثابت بعدم العمل باتجاه تحسين العلاقات بما يؤدي إلى رفع اسم السودان من تلك اللائحة، وكذلك الوصول إلى تعاون ثنائى طبيعي يقوم على المصالح الاقتصادية دون أن تعكرها الخلافات السياسية. قد يرى البعض أن السودان لم يخسر كثيراً بسبب توتر علاقاته مع أمريكا.. وأن المقاطعة الاقتصادية لم تدمر البلاد أو تحقق أهدافها الرامية إلى الضغط على الشعب ومن ثم القضاء على نظام الحكم.. وقد نتفق مع هذا الرأي في الجزء الخاص بعدم تحقيق أهداف الحملة، وكذلك أن تأثير العقوبات نفسه لم تكن نتائجه بمثل ما خطط له اقتصادياً، فالسودان نجح في استخراج البترول في نفس الوقت الذي كانت تدار فيه الحرب في الجنوب وما تكلفه من ضغوط على الموارد المالية، ثم جاء بعدها الصرف على الجنوب بعد السلام وما تم إنفاقه من أموال ضخمة غابت خلالها أموال المانحين بعدأن ذابت وعودهم مع ارتباطات واشتراطات دارفور.لكن عودة العلاقات السودانية الأمريكية إلى الوضع الطبيعي المحكوم بالقواعد الدبلوماسية والثنائية يتطلب المرونة وعدم الوقوف عند نقطة عدم الثقة أو على الأقل رمي الحجر في البركة الساكنة.. وكأنما أراد وزير الخارجية أن يقول إن هناك فعلاً سيبدأ على الرغم من التجربة المريرة، وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية محكومة بسياسات بعيدة عما نعمل لأجله.. أجد نفسي أشجع هذا الاتجاه أن نبدأ في ترميم العلاقات ونفتح جسراً للتواصل لعلاقات يحكمها الاحترام المتبادل لخصوصية الدولة وشأنها الداخلي «بلا انبهال». لا شك أن السودان تضرر من العقوبات الأمريكية بشكل مباشر إن لم يكن مع أمريكا نفسها كدولة كون أنه لا يوجد تبادل تجاري ولا استثمارات أو علاقات اقتصادية من أي نوع، فهذا الضرر المباشر تمثل في ارتباطات المؤسسات المالية الدولية بأمريكا، فالسودان لم يفشل في معالجة ديونه الخارجية رغم الإيفاء بشروط دخول الهيبك «إعفاء ديون الدول الفقيرة»، إلا بسبب تلك الارتباطات - والسودان فشل في الحصول على قطع غيار الطائرات والسكة حديد وتجديد وإعادة تجديد كثير من القطاعات لذات الأسباب.. والبلاد لم تستقبل استثمارات بالحجم المطلوب لنفس الاشتراطات السياسية التي وضعتها أمريكا.. ولإنهاء تلك الحالة لابد من استثمار خيار الانفصال بعد نجاح عملية الاستفتاء لبناء علاقات مصالح اقتصادية مع أمريكا ومع الغرب بشكل عام.. اتجاه وزارة الخارجية الذي تحدث عنه علي كرتي في تصريحاته عقب لقائه بالمبعوث الأمريكي لا يقلل جدواه ما برز من اتجاه مغاير من بعض المسؤولين الأمريكيين أو اللوبيات المسيطرة على القرار في واشنطن، والذي بدأ في الظهور مرة أخرى ليجدد تلك الاشتراطات في تحسين العلاقات مع إنهاء أزمة دارفور.. وطالما أن الاتجاه الداخلي السائد الآن من القيادات السياسية العليا بوضع جدول زمني لقضية دار فور، فإن حديث السفير جوني كارسون مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية حول تصميم نظام عقوبات جديد على حكومة السودان، وربط هذا النظام بحل أزمة دارفور لا معنى له.. ولا يجب أن يقف حائطاً في سبيل التوجه الدبلوماسي القائم. ما أريد قوله هنا إننا في السودان وفي ظل وضع سياسي واقتصادي جديد، نحتاج إلى تقوية العلاقات الاقتصادية مع كل دول العالم واستثمار كافة العلاقات السياسية لخدمة الاقتصاد السوداني بفتح نوافذ التمويل الخارجية واستقطاب رؤوس الأموال والاستثمار وانسياب الحركة التجارية وتحسين علاقات الخرطوموواشنطن تمثل إحدى وسائل هذا الانفتاح الاقتصادي المطلوب.