قلت في هذا الباب قبل يوم من مظاهرة شباب الفيس بوك إنها ستكون مظاهرة فاشلة من قولة تيت. وقد قال الواقع في اليوم الموعود إن شباب (الفيس بوك) الذين تعرفهم من أشكالهم والذين جاءوا للمظاهرة حاملين الكمامات وزجاجات المياه، لا يحتملون المواجهة وفروا من قولة(تيت) لتنتهي المظاهرات قبل أن تتمكن كاميرات الفضائيات من التقاط صورها ونقلها للعالم!! إن شباب (الفيس بوك) الذين يمتلكون أجهزة (اللاب توب) ويهوون التعارف وامضاء أوقات طويلة جداً في المراسلات في بلد أحوج فيه لاستثمار أبنائه لوقتهم فيما يفيد.. بعيدون عن واقع الناس.. إنهم جيل تفتح على ثورات كثيرة فجرتها الإنقاذ من ثورة تعليم وثورة اتصالات إلى ثورات كثيرة تجعل الشعب الذي عاش الماضي لا يراهن على التغيير ولا يقدم على التظاهر لإعادة الوجوه التي تريد أن تعود للحكم على صهوة جواد شباب الفيس بوك الذي لا يحتمل شيئاً ولا يعرف شبابه أن الماضي كان صعباً.. ماضٍ بلا إنجاز.. فالشعب يعرف كيف كان الناس يتوهون في الصحراء وهم قادمون من الشمالية إلى الخرطوم أو عائدون إليها قبل إقامة طريق الشمال في عهد الإنقاذ، وكيف كنا ننام بالقرب من خور (العوتيب) بين شنديوالخرطوم في الخريف وننتظره حتى يجف لنمضي إلى الخرطوم أو العكس.. وكيف كنا نتزاحم في ثلاثة كباري، إذا أغلق واحد منها أغلق نفس الخرطوم، وأن الجامعات لم يكن يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.. والآن قد صارت لا تحصى بسهولة، وأن التواصل بين أجزاء الخرطوم كان يتم بصعوبة في غياب الطرق المسفلتة والتي تمددت في عهد الإنقاذ حتى وصلت الأقاصي مثلما تمددت المؤسسات الصحية بعد أن كانت المراكز الصحية المحدودة والمستشفيات هي التي يقصدها الناس، أما اليوم فقد صارت المستشفيات والمستوصفات الحديثة جداً تنافس مستشفيات الدول التي تعتمد على السياحة العلاجية، كما كان الحصول على طبيب للعمل في مستشفى ريفي مشكلة على عكس اليوم الذي صار فيه حصول الطبيب على فرصة مع كثرة المرافق الصحية ليس سهلاً، وكنا حتى عهد مايو ندرس في مدارس نذهب إليها بالأرجل في الخرطوم في مسافة تمتد لأكثر من ساعة من منازلنا راجلين، أما اليوم فإنه بين كل شارع وآخر مدرسة.. وكنا نحرق الأوساخ أمام منازلنا قبل أن تأتينا في عهد الإنقاذ سيارات النفايات أمام منازلنا، وكذلك حال المياه.. فشباب الفيس بوك لا يعلمون أن المياه قبل الإنقاذ كانت غير متوفرة وأن أغلب امتدادات الخرطوم كانت تشرب من عربات المياه التي تجرها الدواب، والآن المياه متوفرة حتى في امتدادات حارات الفتح بأم درمان وأواخر الريف.. وأن المواسير التي كنا ننام بجوارها ننتظر أن (تنقط) علينا لنملأ الأواني (نقطة نقطة) قد تغير حالها، وأن في الصالحة بأم درمان تنفجر الأنابيب من قوة الضغط وبالمثل حال الكهرباء التي كانت تقطع باستمرار.. والآن بالرغم من التمدد الكبير للشبكات، فإن القطع يكون حالة شاذة. ü أما الأمن فقد كنا عندما (ينط) علينا لص ويسرق بعض ممتلكاتنا، فإن الشرطة تطلب منا عندما نأتيها أن نأتي بالورق الذي نكتب عليه العريضة، ثم بالسيارة و..و.. على عكس اليوم الذي تأتيك السيارة بمجرد الضغط على(999) في هاتفك، وبالتالي فإن الذين لم يخرجوا للتظاهرة يتذكرون فوق كل هذا أن الحصول على الوقود كان يحتاج للمبيت في الصفوف مثله مثل الخبز الذي يتم بالصفوف على عكس اليوم الذي صار فيه الخبز ينتظر الناس وهو في صفوف العرض، وكذلك طلمبات الوقود التي صارت في كل مكان ولا تسمع فيها عبارة والله ما في وقود.. فقبل الإنقاذ كان الجنود يحاربون بلا ذخيرة ويرقعون ملابسهم وكانت الاتصالات تقليدية، فقد فتحنا عيوننا على هواتف (البوستة) والتي كنا نأتيها حتى في عهد الديمقراطية الثالثة والموظف يقول عفواً الحرارة ساقطة.. والآن وأنت في محلك يمكنك أن تطلب الشاي والقهوة من ست الشاي عبر الهاتف، فكل هذه المعطيات جعلتني أقول إن المظاهرة ستفشل قبل قيامها، لأن شعب السودان هو شعب الثورات.. شعب واعٍ يهب بحسابات.. وإذا هب لا يحتاج إلى رسائل شباب الفيس بوك، وإنما يهب تلقائياً كما فعل في أكتوبر وأبريل عندما توفرت مبررات الثورة وضرورة التبديل والتي لا يراها الآن برغم الضوائق المعيشية التي يعلم أنها في كل مكان في العالم منذ الأزمة المالية العالمية.. وأن أمريكا نفسها تعاني من الغلاء جراء آثار الأزمة المالية العالمية، ويعلم أن ولاية الرئيس البشير ستمتد لأربعة أعوام قادمة يمكن بعدها أن تنافس الأحزاب الأخرى ويمكن أن تأتي للحكم لو قرروا هم ذلك، وسيرضى البشير يومها كما رضيّ بفصل الجنوب وفاءً للوعد.. إنها جميعها معطيات جعلت الشارع لا يساند شباب الفيس بوك القلة، لن يساندهم في الزمان الذي صار فيه المواطن أكثر وعياً وإدراكاً بمصالحه ولا يريد أن يدخل البلاد في صراع بعد الاستقرار الذي عشناه والتدرج الذي مارسته الحكومة من قبضة شديدة في بدايتها إلى انفتاح ثم حريات جعلت انتقاد أي مسؤول في الصحف التي يتجاوز عددها عدد الصحف في أمريكا ممكناً وسهلاً. ü والخطوات ماضية لإقامة حكومة قاعدة عريضة تعد دستوراً للبلاد وتهييء الساحة لمرحلة الانتخابات القادمة. ü أخيراً: عفواً شباب الفيس بوك فإن الواقع الآن مع أن تشارك الأحزاب في إعداد الدستور وأن تعد نفسها للمنافسة في الانتخابات القادمة بأحزاب قوية.. لا أن يتستر بعضها وراءكم فيخسرون هنا وهناك.