ثلاث مرات يترقب الناس في مصر وفي العالم كله حين ينوِّه التلفزيون المصري عن قرارات رئاسية وشيكة أن يخرج الرئيس حسني مبارك بجديد، ولكن يخيب ظنهم ، ففي المرة الأولي قال الرئيس مبارك في خطابه إلي الشعب المصري إنه سيقيل الحكومة «الجهاز التنفيذي» ويشكل أخرى ، وفي المرة الثانية أعلن عن تعيين مدير المخابرات عمر سليمان نائباً له، والمرة الثالثة وعد مبارك الشعب المصري بعدم الترشح لفترة رئاسية أخرى بعد إكمال فترته الحالية. والناظر لهذه القرارات والخطوات التي أعلنت عنها الرئاسة المصرية يجد أنها كلها كانت إيجابية، وكانت هي القاسم المشترك للمطالب التي ظلت تنادي بها المعارضة المصرية بكافة اتجاهاتها وألوانها منذ منتصف الثمانينيات، فعدم تعيين نائب للرئيس كان مثار جدل واسع في الأوساط السياسية المصرية، ودائماً ما كانت المعارضة تثير هذه القضية من وقت إلي آخر، وفي المقابل لم تكن هناك إجابات واضحة ومقنعة من قبل الرئاسة المصرية، وأذكر أن الرئيس مبارك وفي احدي زياراته الخارجية لإحدي الدول الأوربية في أوائل التسعينات وفي مؤتمر صحفي مشترك سألته صحفية جريئة سؤالاً مباشراً: لماذا لم تعين نائباً لك حتى الآن؟ فكانت الإجابة مفاجئة لكل الحضور وعلي رأسهم الرجل المضيف قال الرئيس مبارك إنه سيفعل ذلك ولكن حينما يجد الرجل المناسب ! ويومها أقامت المعارضة المصرية الدنيا وأقعدتها وتناولت الصحافة المصرية هذا التصريح الرئاسي بالهجوم والسخرية وقولهم إنه استخف بتسعة وستين مليون وتسعمائة تسعة وتسعين مصرياً، وقد كان عدد سكان مصر يومها «70» مليوناً ! ولم يدرك المصريون سر إصرار الرئيس مبارك على عدم تعيين نائب له إلا بعد ما تسربت أنباء عن نية الرئيس ادخار المنصب لابنه جمال لتعيينه فيه، ولكن في الوقت المناسب ! أما عدم ترشح الرئيس لفترة تالية فكان أيضاً مطلب قديم من مطالب القوي السياسية المصرية المعارضة لم يعره الرئيس مبارك اهتماماً قط منذ توليه الحكم . لو كان الرئيس مبارك أعلن عن قراراته آنفة الذكر قبل يوم الثلاثاء 25/1 الماضي أو حتى في مساء نفس اليوم كاستجابة لمطالب الشعب ولو ظاهرياً، لأصبح بطلاً ورمزاً في نظر الشعب المصري الذي تغلب عليه العاطفة كحال كل الشعوب العربية ولحملوه على أعناقهم وسطروا اسمه في سجل الأبطال والقادة التاريخيين في مصر، و كانوا سيذكرون له أنه كان مثالاً للوطنية والتجرد ولمنحوه وساماً رفيعاً في حب مصر والتضحية من أجلها والحفاظ علي شعبها وحقن دمائه، ولكنه لم يفعل للأسف حتى وصلت الأمور إلي هذا الحد بعد أن سالت الدماء و أُزهقت أرواح عزيزة من أبناء مصر الشقيقة وعمت الفوضى في هذا البلد الذي عشنا فيه سنين عدداً في عهد الرئيس مبارك آمنين مطمئنين ونشهد بذلك من باب إحقاق الحق، فخرج الرئيس مبارك في الوقت الضائع ليستجيب بعد ثلاثين عاماً للمطالب القديمة، ولكن من الواضح أن الوقت قد انقضي وفات على مثل هذه القرارات وأصبحت لا معني لها لأنها جاءت في سياق غير عادي وغير طبيعي، وبعد أن امتلأت نفوس المصريين بعشق التغيير وتضمخوا بأريجه واستنشقوا نسمات الحرية واكتشفوا أن في دواخلهم طاقة وقدرة هائلة على التغيير وقول كلمة «لا» جهراً لا سراً ولا تخافتاً أو تهامساً بينهم . مأساة الرئيس مبارك تتمثل في أنه وجد نفسه في خضم أحداث درامية متسارعة لم يكن يتوقعها أبداً، وفي تقديري أنه وقع ضحية تقارير أمنية مضللة تزين له الأوضاع وتقول بأن كل شيء تمام ومسيطر عليه وتقلل من حجم الأحداث ومآلاتها وتصفها بأنها زوابع عابرة. إنني أكاد أجزم بأنه لو كان على علم واطلاع على حقائق الأوضاع في بلاده لاختلف الأمر عن الذي نراه الآن مندهشين و غير مصدقين لكثير مما يجري في هذا البلد العزيز علينا. وأكاد أجزم مرة أخرى أن الرئيس مبارك كبُر عليه أن تكون خاتمة حكمه لبلده مصر على هذه الشاكلة، هو الآن يعيش تحت وطأة هذا الشعور الذي لا يصدر إلا من شخص امتلأت نفسه بالوطنية وحب بلاده ، قد تبدو هذه المعادلة متناقضة لأول وهلة ، ولكنها الحقيقة، فقد ظل مبارك يحكم مصر لمدة ثلاثة عقود وقبلها كان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية في عهد السادات لمدة ستة سنوات، وقد كان قبل أن يشغل منصب النائب قائداً للقوات الجوية المصرية في حرب أكتوبر73، حيث أبلى فيها بلاءاً حسناً وانتصرت فيها مصر على إسرائيل، فكان أن عيّنه السادات نائباً له مكافأة له وثقة فيه، وهذا يشهد له بوطنيته وحبه لمصر، وفي تقديري أن أسباب إصراره على الاستمرار في الحكم رغم ما يراه ويسمعه، هي أسباب نفسية تجعل نفسه تأبى أن ينتهي به الحال بعد كل ذلك المجد الذي بناه وظن أنه قادر عليه فيصبح بين ليلة وضحاها هباءاً منثوراً وبهذه الطريقة الدرامية التراجيدية ! الرئيس مبارك يريد «إخراجا» كريماً لعملية تنحيه يحفظ له كرامته وتاريخه وعطاءه الذي سلف لبلاده.. فهلا يستجيب له الملأ من بني جلدته وأهل الرشد من بطانته؟!