احتفل تلفزيون جمهورية السودان في الأسبوع الأخير من ديسمبر 2010م باليوبيل الذهبي أي مرور خمسين عاماً على افتتاحه، فتذكرت العنوان أعلاه وأنا طالب في مدرسة سنار الثانوية وهكذا كان اسمها وتغير هذا الاسم إلى الثانوية العليا في عهد حكم الرئيس الراحل جعفر نميري، ونحن جلوس لامتحان الشهادة السودانية في أبريل عام 1966م وهذا اسمها أيضاً وتغير إلى الشهادة الثانوية العليا في عهد نميري كذلك وهي الشهادة التي تؤهل الطالب للدخول في الجامعات السودانية والمنافسة في المعاهد التعليمية العليا، ويجلس الطالب للامتحان في عدد تسع مواد حسب اتجاهه، فلو كان في المساق العلمي لابد من أن تتضمن المواد التي يجلس لها الفيزياء والكيمياء والأحياء، وإذا كان من الراغبين في الاتجاه العلمي أحياء، وهذا المساق يقود إلى دراسة الطب والصيدلة وطب الأسنان والبيطرة والعلوم أحياء، وهناك العلوم رياضيات، على أن تتضمن المواد التي يجلس لها الطالب الرياضيات الأولية والرياضيات الإضافية والفيزياء وتقوده إلى دراسة الهندسة بأنواعها، ثم العلوم رياضيات.. أما في الاتجاه الأدبي.. فعلى الطالب أن يجلس للامتحان في مواد اللغة العربية، واللغة الإنجليزية، وآدابها وعلوم التاريخ والجغرافيا والدين والفنون، وفي اللغة العربية فروعها.. ومن بين الفروع مادة الإنشاء، وهذه المادة هي التي نحن بصددها في هذا المقال، فمن ضمن المواضيع التي وردت في ورقة امتحان الإنشاء على أن يكتب الطالب في واحد منها كان موضوع: تلفزيون السودان «بين محاسنه ومساوئه»، وفي ذلك العام 1966م كان التلفزيون قد دخل حديثاً إلى السودان في عهد حكم الفريق الراحل إبراهيم عبود- طيب الله ثراه - وكان الإرسال التلفزيوني حينها في حدود مديرية الخرطوم وهذا اسمها، ومن يتولى إدارة شؤونها فهو «المحافظ»، وتغير هذا اللقب إلى «المعتمد» وصارت بذلك الخرطوم معتمدية.. وأخيراً أصبحت «ولاية» ويدير شؤونها «الوالي». فالإرسال التلفزيوني حسبما ذكرت آنفاً لم يخرج من دائرة محافظة الخرطوم، وبالتالي فنحن في مدينة سنار لم نشاهد إرسال التلفزيون وكان الهدف من هذا السؤال معرفة مدى مواكبة الطالب لما يدور في بلاده وحوله، وهل هو متابع ومطلع، أم أنه متقوقع ومنغلق على نفسه، وفي هذا الإطار كان هناك سؤال في مادة الإنشاء الإنجليزية Composition))، أن يكتب الطالب في إحدى المواد المذكورة، واذكر منها «الفضاء» وقد تمت كتابة اسم الموضوع هكذاThe) Space) بالحرف الكبير الأول وهو S)) في الكلمة التي معناها الفضاء، ففي تلك الفترة كان انفتاح العالم نحو الفضاء ووصول المستر قاقارين إلى سطح القمر، وهو سؤال القصد منه اختبار معلومات الطالب عن الفضاء في الحد الأدنى، فليس المطلوب منه ما عند عالم الفلك من معلومات، ثم مدى معايشة الطالب لما يجري حوله من تطورات وأحداث جديدة. ورغم أنني لم أشاهد التلفزيون لما سبق أن ذكرت من أسباب، إلا أنني تجرأت وكتبت في الموضوع فقلت إن من محاسنه أنه جهاز تثقيفي، إعلامي يقدم برامج للمشاهدين في الدين والسياسة والرياضة مما يجعل التلفزيون للتعليم والترفيه والثقافة، ويمتاز بأنه جهاز مرئي ومسموع «شوف وسمع»، وبهذا فهو يشغل أوقات فراغ الأسر بما هو مفيد وممتع، وقد يمنع طيش الصبية والمراهقين بالخروج إلى الشوارع والتسكع وتزجية الوقت فيما لا قيمة له ولا فائدة منه.. وهذا ما سمحت به ذاكرتي من معلومات كتبتها في ورقة الإنشاء فالمدة طالت، أما عن المساويء فقد بينت أن الإرسال التلفزيوني محتكر ومختصر في محافظة الخرطوم، فهو إذاً لعدد محدود من سكان السودان وليت إدخاله يجيء بعد أن تتوفر له الإمكانات ليغطي أكبر مساحة ممكنة من السودان ويستمتع به أكبر عدد من السكان، فلماذا الأفضلية، وما كنت أدري أن إرسال التلفزيون سيأخذ في الانتشار بالتدرج حتى أصبح اليوم يشاهد دولياً، وخرج من اللونين الأبيض والأسود إلى دنيا التلوين وعالم تقنيات الكمبيوتر، ثم المسلسلات والدراما، ونقل الأحداث مباشرة، وصار له أثر إعلامي كبير. الطريف في الأمر أنني بعد أن سلمت ورقة امتحان الإنشاء قابلت أستاذنا الكبير الراحل محمود علي سليمان- لغة عربية- فقلت له إنني كتبت في هذا الموضوع وأنا لم أشاهد التلفزيون ولا أعرف أي شيء عما يقدم من برامج حتى استطيع الحكم على محاسنه ومساوئه وحكيت له- طيب الله ثراه- ما أوردته في ورقة الإجابة من أفكار، فقال لي: إن الذي كتبته هو المطلوب ولو كتبت غير ذلك لما تحصلت على نمرة تضمن لك النجاح، ولكنك الآن مضمون النجاح على الأقل في ورقة الإنشاء. ذات مرة قابلت بعض الطلاب وكانوا يشتكون من ورود سؤال عن مرض الإيدز في امتحانات الشهادة، فذكرت لهم أن ذلك أمر طبيعي، وقد قصدت وزارة التربية أن تعرف مدى تفاعل الطالب مع الأحداث حوله، ومدى صلته بالمستجدات، وتريد أن تعرف مدى إلمام الطالب بالمرض بصفة عامة مثل معني كلمة «إيدز»، وهل هي كلمة عربية أم إنجليزية وما معناها، وكيف وأين ظهر المرض، وطرق انتشاره ووسائط الوقاية منه، وهو في المقام الأول مرض ينتشر بين الشباب بسبب المراهقة والعلاقات الجنسية غير السوية، وربما استعمال حقن الوريد في تناول بعض المخدرات، وليس المقصود أو المطلوب من الطالب أن يكون إلمامه بالمرض كالطبيب، وسردت لهم قصة «تلفزيون السودان بين محاسنه ومساوئه». اليوم توسعت دائرة الإرسال التلفزيوني وصار فيها القومي والولائي، ففي البلاد خمس وعشرون محطة تلفزيون، واحدة في كل عاصمة ولاية، ثم القناة القومية وقنوات أخرى، فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال، وبعد هذا الانتشار الكبير للإرسال التلفزيوني داخلياً وخارجياً لم تعد هناك للتلفزيون مساويء. أختم بالتحية الخالصة لكل من عمل في التلفزيون وما زال يعمل من أجل خدمة هذا الجهاز باذلاً جهده وفكره في صمت ونكران ذات، وأخص بالشكر أستاذنا الكبير علي محمد شمو، ثم سعادة الأخ الدكتور أحمد الزين صغيرون الذي شغل منصب مدير عام التلفزيون ومدير عام مصلحة الثقافة في آن واحد، جامعاً بالمنصبين شقي اسم الوزارة في ذلك الزمان «وزارة الثقافة والإعلام» حتى عام 1976م، حين تفرغ مديراً عاماً للتلفزيون.. ولكل من شغل هذا المنصب ومنهم المهندس الطيب مصطفى رئيس مجلس إدارة صحيفة «الانتباهة» حالياً، وقد شهد التلفزيون القومي في عهده طفرة كبيرة.. لهم التحية وللجميع وكل عام وتلفزيون السودان بخير..!