اعتبر الدكتور عيسى بشرى وزير العلوم والتكنولوجيا القيادي بالمؤتمر الوطني أن انفصال الجنوب هدأ النفوس وأسكن التصريحات المستفزة بين الجانبين، وقال إنه ليس من مصلحة دولة الجنوب الوليدة كسب عداء الشمال باحتضانها لأي معارضين أو مناهضين للحكم في الشمال، مشيراً إلى أنه من أولويات دولة الجنوب الانصراف لبنائها الداخلي، ونفى بشدة أن يتحمل المؤتمر الوطني أية مسؤولية أو تبعات تاريخية بفصل الجنوب، مؤكداً أن حق تقرير المصير أقرته كل القوى السياسية في البلاد وأن ما يميز المؤتمر الوطني أنه عمل على تحقيق الوحدة الجاذبة.. وذهب في حديثه إلى القول بأن أبيي قابلة لاتفاق شامل ترعاه الحكومة ويحفظ للجميع حقوقهم في المنطقة وأن المسيرية وإن تغير نمط حياتهم لن يتركوا ديارهم، وراهن عيسى بشرى على منهج العلوم والتكنولوجيا في النهضة الشاملة عبر تسليح إنسان السودان بالمعرفة التقنية. هناك اتجاه لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة كما ورد على لسان الرئيس، ما هي الضرورة خاصة وأنكم خارجون من انتخابات؟ - الهدف من الحكومة الموسعة هو توسيع المشاركة من أجل تمكين قطاع عريض من القيادات الشعبية باختلاف ألوانها السياسية، من المساهمة في البناء والاستقرار للسودان الشمالي في أعقاب نتائج الاستفتاء التي أدت بالطبع للانفصال، وهذا لا يتعارض بأي حال مع برنامج المؤتمر الوطني الذي خاض به الانتخابات وحقق به النتائج الساحقة، غير أن مرحلة ما بعد انفصال الجنوب مرحلة خاصة لها دواعيها وخططها وإستراتيجياتها، أي الانصراف الكامل لاستكمال بناء السودان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، فهذا الشمول المرتجى في النهضة يتطلب مشاركة شاملة وفاعلة.. ويقيني أن ذلك يتحقق بقيام حكومة ذات قاعدة عريضة وهي أهم أسبابه وأولى عتباته. لكن المعارضة رفعت شعار إسقاط النظام؟ - المعارضة الهادفة الناصحة مطلوبة لحيوية الحكم وتصويبه، وعليها العمل مع القواعد حتى تستطيع امتلاك المبادرات، ولكن أن يظل هدفها الرئيسي إسقاط النظام ستكون ذات المعارضة القديمة الجديدة بذات الهدف القديم الجديد، والمؤتمر الوطني يتحاور مع القوى السياسية لضرورات وطنية، ودعوة الرئيس تصب في هذا المعنى. السيد الوزير المفاوضات الطويلة والشاقة في منتجع نيفاشا لم تكن من أجل استقلال الجنوب؟ - كما هو معروف حرب الجنوب من أطول الحروب في أفريقيا والعالم، وقد أرهقت السودان إرهاقاً شديداً من كل النواحي، وهي ما أن تنتهي إلا لتندلع مرة أخرى، ولذلك كانت مفاوضات نيفاشا أكبر خطوة عملية وجريئة، بها أوقفت الحرب وحقنت الدماء وجعلت السودان دولة مستقرة وآمنة توظف مواردها لمصلحة شعبها وللآخرين، أما الحديث عن تقرير المصير فقد جاء من باب وجود فترة زمنية يتم فيها بناء الثقة بين الأطراف لينظروا في نهايتها ما إذا كانت مخرجات نيفاشا تتحقق بأي من الخيارين، والاتفاقية قامت أصلاً من أجل مشكلة مزمنة ولا يعني بأي حال أن يشترط في سياق حلها خيار الوحدة أو الانفصال، بل هناك اعتبارات كثيرة أعلاها الاستقرار وتطلعات الإخوة الجنوبيين باعتبار أنهم جزء من الأمة السودانية، صحيح هناك من اعتبر أن الاستحقاق كان كبيراً لكنه في النهاية حل حمل مقاربة بين جميع الآراء والتطلعات، لأن حرب الجنوب كانت طويلة استمرت زهاء الخمسة عقود، وخلقت الكثير من المرارات شمالاً وجنوباً. كما وسعت الهوة بين الشمال والجنوب، وهناك أشياء كثيرة أثناء التنفيذ كانت تحتاج للمراجعة ولم يكن بوسع الأطراف حسمها في يوم وليلة، فالموضوع برمته في النهاية تقييم للممارسة. أما الحديث الآن فالأصوب أن يتركز في سودان المستقبل الذي يحلم به الجميع أن يكون رائداً في شتى المجالات ورمزاً للعزة والكرامة للشعوب التي تريد أن تقول لا للاستعمار الحديث. هل كان من الضرورة قيام الاستفتاء في موعده المحدد؟ - المفاوض الحكومي طرح فترة أطول وكانت بمثابة فرصة جيدة للتقييم، غير أن الناس في النهاية ملزمون ببنود الاتفاقية والفترات الزمنية المنصوص عليها، وأن يتحمل كل طرف مسؤوليته فيها، حيث اختار الجنوبيون للانفصال.. فهدأت النفوس وانتفت التصريحات التي كان بها الكثير من الشطط، وبدأ التفكير في كيفية التعامل مع الواقع المستجد. هل هناك عدم رضى في المؤتمر الوطني على هذه النتيجة؟ - طبعاً.. هناك شيء في النفوس، ولكن عزاءنا أن الدولة الجديدة هي الجار الذي أوصانا به رسولنا الكريم.. فالمؤتمر الوطني يحترم خيار الجنوبيين، كما أن أجهزة الحزب لا ترى أن هناك ندماً، بل إنها فوضت الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية، وهو بلا شك أدار الملف باقتدار.. ونرى أنه في المقام الأول حقن دماء أبناء الوطن، فضلاً عن أن إرساء دعائم السلام سيستمر حتى مع اختيار الجنوبيين للانفصال، لأن الانفصال لم يؤدِ إلى رحيل الجنوب بأرضه بعيداً عن الشمال، وإنما يعتبر الاتفاق ميثاق إخاء لمصلحة أبناء الأمة السودانية، فليست هناك هزائم ولا انتصارات، لأن العائد واحد وهو الاستقرار السياسي والاجتماعي. في تقديركم ما هي المكاسب المتحققة للشمال والجنوب بعد الانفصال؟ - ستنشأ علاقة تكاملية بفضل الوشائج والدماء والأواصر التي تربط أبناء الشعب السوداني، والداعم لتلك العلاقة هو شعور الإخوة الجنوبيين بضرورة التعامل مع الشمال.. واعتقد أن العلاقة لا تنفصم، بل ستقوى وتتجذر وتؤدي إلى كل ما هو مفيد. لكن هناك من يرى أن العلاقات مرشحة لمزيد من التوتر على خلفية القضايا العالقة بين الشريكين سابقاً كترسيم الحدود وقسمة الموارد الاتحادية وأبيي؟ - الحل تجاوز الإنسان نفسه، حيث قبلنا أن تنشطر الأمة السودانية مع الحفاظ على وشائج الأخوة، واعتقد أن مثل ما يسمى بالقضايا العالقة تمثل خميرة عكننة.. فالأفضل لأطراف الاتفاق البعد عن الاضطرابات، والمتابع لتصريحات المسؤولين يلحظ أن هناك استعداداً لحل هذه القضايا. هل هذا يعني أن للشمال دوراً منتظراً في بناء دولة الجنوب؟ - أولاً ينبغي أن نأخذ في الاعتبار الاستعداد النفسي الاجتماعي لدى الشماليين في الحفاظ على دولة الجنوب بما لهم من علاقات أشرنا إليها، وفوق ذلك كله الشمالي لا يجد حرجاً في التعامل مع الجنوب انطلاقاً من هذه العلائق، واعتقد أنه سيبادر.. والحدود التي تنشأ لن تصبح حواجز تمنع التلاقي، بل تؤطره وتنظم تدفقه وانتشاره واندياحه.. ولعل الطرفين ينتظران ذلك بنفاد صبر، إذاً ما معنى الحديث عن الحريات الأربع وما هي إلا مؤشرات لتعاون مرتقب، لذلك أرشح اتساع نطاق التعاون ليشمل مثلاً الجامعات في علاقات متطورة، وكذلك ازدياد وتيرة التبادل التجاري والثقافي والتقني وتبادل الخبرات على كافة الأصعدة الرسمية والخاصة. السيد الوزير هذا يقودنا إلى حديث حول الكونفدرالية تتداوله أطراف عدة بين الشمال والجنوب؟ - الحديث عن الكونفدرالية سابق لأوانه، لأن الإخوة في الجنوب يحتاجون لترتيب وضعهم.. واعتقد أنهم سيجدون كل ما يحتاجون في الشمال، وسيكون ميسوراً بفضل سابق العلاقة والاستقلال الذي تم بالحسنى، وبلا شك المستقبل يبدأ من الماضي.. والطرفان سيوظفان ماضي علاقتهما لخدمة مصالحهما هنا وهناك بالصورة التي تجعل الانفصال اسمياً. المؤتمر الوطني يتحمل المسؤولية التاريخية لفصل الجنوب؟ - اختلف معك تماماً، كل الأحزاب السودانية في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية وافقت على حق تقرير المصير للجنوب، وما يميز المؤتمر الوطني أنه عمل على تحقيق الوحدة بصدق.. والتزامه بتنفيذ بنود الاتفاقية.. ولديه رصيد كبير جداً في الجنوب، بينما الأحزاب الأخرى تفتقر للمصداقية مع الجنوبيين بدليل أنه لا وجود لها بين الجنوبيين. أبيي كشمير الجديدة.. إلى مدى تتفق النخب ويأتي الرفض من المواطنين؟ - أبيي يجب ألا تفسر أكثر من أنها قضية أرض والبترول فرية كبيرة، لكن الإعلام وأيادٍ أخرى لعبا دوراً سالباً بإخراج القضية عن سياقها الطبيعي، فالقضية في مجملها قضية حقوق لمواطن عاش منذ زمن دارس وليس مقبولاً أن يطلب منه مغادرة أرضه التي لا يعرف غيرها داراً. إذا كان الأمر كذلك، هل من المتصور أن تصبح أبيي جسراً للتواصل؟ - الأصل أن تكون أبيي جسراً للتواصل والدليل أن أبيي طوال سنوات الحرب لم تتعرض للاعتداءات إلا بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا، وهذا يعني أن هناك جهات تريد توجيه المنطقة توجيهاً محدداً متجاوزة في ذلك الإرث التاريخي للتعايش، ومحاولة طمس التاريخ المعروف للمنطقة، والحل يكمن أولاً في وقف التصريحات المستفزة وإعمال العقل حتى نصل إلى صيغة تعايش نتجاوز بها ما زرعته النخب من مرارات أثرت في العلاقات الأصيلة وتركت في النفوس ما تركت، فالتصريحات مثل عدم أحقية المسيرية في الرعي والماء تعتبر من أكثر التصريحات استفزازاً للقبيلة وهي تجاوز صريح لأحقية المسيرية في الأرض التي لن يتنازلوا عنها، كما أن الخبراء تجاوزوا الحقيقة وجاءوا بمعطيات تغالط الواقع. الا توافقني أن أهم مرتكزات الحل تكمن في تغيير المسيرية لنمط حياتهم؟ - حتى لو تغير نمط حياة المسيرية باستخدام وسائل كسب جديدة عبر نشاط كسبي جديد، سوف لن يكون ذلك خارج أبيي. كنت خلال الأسبوع الماضي على رأس الراعين لمركز دراسات التماس، كيف ترى مستقبل مناطق التماس في ظل الواقع الجديد؟ - حزام التماس واعد ويختزن موارد السودان وعلاقاته وإرثه الحضاري، وهو الضامن لتطوير العلاقات شمالاً وجنوباً بفضل الحركة الإنسانية النشطة فيه، وأرى أن البحوث التي سيقدمها مركز دراسات التماس ستكون الأساس لبناء المستقبل للدولتين. ... نواص