في طرح موازٍ ومكمل لما تسعى اليه هيئة السكة الحديد لإعادة تأهيل وتجديد هذا المرفق الحيوي أعدت مؤخراً دراسة أولية حول إنشاء شبكة جديدة للسكة الحديد بالقياس العالمي 1435 ملم الذي يتميز بالسلامة والحمولة والسرعة.وأضحت الدراسة أن هناك عودة كثيفة للسكة الحديد على نطاق العالم، كما وأوضحت أن مبررات هذه العودة هي: الاقتصاد في الطاقة، الحد من انبعاث الغازات الضارة بالبيئة، التقانات الحديثة التي ضاعفت من سرعة وحمولة القطار، العولمة وأخيراً الخصخصة وشيوع نظام (البوت) لاستقطاب إمكانات القطاع الخاص المالية وكفاءته في الإدارة والتشغيل.للتعريف بعناصر تفوق القطار تناولت الدراسة المزايا الفنية التي يتمتع بها القطار في الحركة، والحمولة والاقتصاد في استهلاك الوقود..أشارت الدراسة أيضاً إلى تفوق القطار والخطوط من حيث العمر الافتراضي وإلى الرحلات الآمنة والممتعة التي يوفرها للمسافرين وإلى دوره في حماية البيئة بشكل عام.للتعريف بمعالم ومؤشرات عودة السكة الحديد قدمت الدراسة احصاءات عن الدول التي حققت أرقاماً قياسية في أعداد المسافرين بالقطار وفي الطن المنقول، لم تكتف الدراسة بذلك إذ قامت بسياحة في عالم النقل السككي من خلال استعراض بعض المشاريع الكبرى التي أنجزت أو يجري تنفيذها في العالم، لتقديم نماذج واقعية وقريبة لذهن القارئ كان تركيز الدراسة على تجارب دول عالم ثالثية، وكلها مشاريع تجسد مفهوم (عودة السكة الحديد). أشارت الدراسة إلى الطرق البرية التي نفذتها الحكومة- أو تسعى لإنشائها- للربط الطرقي مع دول الجوار.. خاصة الحبيسة منها (L.L.CS).. هنا حذرت الدراسة من المخاطر الأمنية والصحية والاجتماعية والاقتصادية بتحول السودان إلى معبر بين الدول التي يشاركها العضوية في المنظمات والتجمعات الاقليمية كالكوميسا وس.ص.. وذلك بجانب تحوله إلى منفذ بحري لدول الجوار الحبيسة وما تشترطته منظمة التجارة العالمية W.T.O في استحقاقات العبور. ترى الدراسة أن الربط السككي مع هذه الدول يدرأ إلى حد بعيد تلك المخاطر ويوفر النقل بأسعار وكفاءة بما يرضي كل الأطراف.في محاولة لالقاء بعض الضوء على ما قدمه القطار للسودان بررت الدراسة سنوات (الزمن الجميل) الذي يحن اليه السودانيون بهيمنة القطار على قطاع النقل في تلك السنوات!!.كانت صادرات السودان من المحاصيل الزراعية تتساب في سهولة ويسر إلى بورتسودان بأقل تكلفة، مما أعطاها ميزة تنافسية عالية ورواجاً في الأسواق العالمية. من جهة أخرى استطاع القطار توفير السلع المستوردة والمحاصيل الزراعية والماشية في الأسواق الداخلية بتكلفة نقل زهيدة، مما جعل تلك السلع في متناول يد قاعدة واسعة من المستهلكين.. لذلك كان هناك رغد نسبي في العيش هيأ لاجواء خصبة للابداع في كل ضروب الحياة، وتلك هي سنوات (الزمن الجميل). سكك حديد النيل:تقترح الدراسة إنشاء شبكة جديدة بحيث تبدأ من بورتسودان وتتجه نحو النيل لتعبره غرباً عند منطقة الشريك (450 كلم) من هذا الموقع، يتفرع الخط الحديدي إلى محورين يتم إنشاؤهما في أربع مراحل، وفي مدى زمني تقدره الدراسة بثمان إلى عشر سنوات. يمتد المحور الجنوبي محاذياً لنهر النيل من جهة الغرب حتى أم درمان، وبهذا تكتمل المرحلتان الأولى والثانية من الشبكة المقترحة (900كلم).. يتواصل الخط بعد ذلك محاذياً غرب النيل الأبيض حتى غرب ملكال ماراً بمدينتي الدويموكوستي وعشرات القرى، بوصول الخط الحديدي إلى ملكال تكتمل ثلاث مراحله من الشبكة بطول تقديراً يبلغ 1700 كيلومتر. أما المحور الشمالي فيمتد في مرحلتين الأولى من (تقاطع) غرب الشريك إلى مروي، حيث يعبر النيل ويتواصل حتى شرق الخندق، من هذا الموقع تبدأ المرحلة الخامسة والأخيرة بامتداد الخط بشرق النيل في ظهير معظم القرى حتى وادي حلفا، حيث يمكن الالتحام بالشبكة المصرية لتطابق الخطوط على القياس العالمي 1435ملم. بالتحام الشبكة المقترحة بالخطوط المصرية تتسع آفاق التبادل التجاري للسودان، ليس حصرياً مع مصر بل مع دول المغرب العربي والشرق الأوسط، التي يخطط لها أن تلتقي في مصر.بهذا الإلتحام ستتوفر للسودان أيضاً منافذ على البحر الأبيض المتوسط عبر الموانئ المصرية.. في مقابل ذلك يمكن للسودان أن يوفر منافذ لتجارة مصر الخارجية مع أفريقيا، عبر خطوطه الحديدية الممتدة إلى دول الجوار الحبيسة، وذلك من خلال مناقلة Transshipment الحاويات عند تقاطع الشبكتين- القائمة 1067ملم والمقترحة 1435 ملم- في منطقة الشريك (لأثيوبيا) وفي كوستي لغرب أفريقيا عبر تشاد وأفريقيا الوسطى.إن الصناعة المصرية في أمس الحاجة لمثل هذه المنافذ، فالغزو العولمي لأسواقها أصبح مهدداً خطيراً لصناعتها ومن ورائها لرؤوس الأموال وللعمالة. قد يعترض البعض على قيام شبكتين مختلفتين في السودان، لهؤلاء أكدت الدراسة ألا تضارب في وجود شبكتين، ففي العالم اليوم عشرات الدول التي لها أكثر من شبكة ومعظم هذه الدول تقل مساحة عن السودان كسويسرا، رغماً عن ذلك تعترف الدراسة أن هناك اتجاهاً عالمياً نحو توحيد الشبكات الحديدية لكونه الحل الأمثل، ويستطيع السودان أن يسعى إليه مستقبلاً. إن أهم المكاسب التي ستحققها الشبكة القائمة من هذا المشروع هي تخفيف العبء عنها، لتتمكن من الارتقاء بخدماتها لشرق وغرب وجنوب السودان، ذلك بالطبع بجانب تمددها إلى دول الجوار الحبيسة كأثيوبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى. من جهة أخرى أن قيام الشبكة المقترحة يعني ضمناً الاستغناء عن خطوط أبو حمد- وادي حلفا (370كلم) نمرة 10- كريمة (200كلم) وعطبرة- هيا (270كلم). بتعطيل هذه الخطوات ومجموعها 840 كلم- يصبح من الممكن إعادة استخدامها? أو استثمار قيمتها- في ربط خشم القربةبعطبرة- مدينة السكة الحديد- لإحداث نهضة اقتصادية في شمال البطانة- الذي هو الآخر- يعاني من عزلة تاريخية تبدو آثارها أسفل نهر عطبرة في محلية نهر عطبرة.. أما ما يتبقى من الخطوط فيمكن استخدامه في تمديد الخط من واو إلى جوبا. أهداف المشروع: يشكل المشروع عامل جذب للوحدة وذلك من خلال إيجاد صلة سككية مباشرة بين مكال- وبورتسودان في رحلة تمتد حوالي 1700 كلم تستغرق أقل من يوم واحد بقطارات تعمل بكفاءة، أما في حالة انفصال الجنوب، فالمشروع يعزز الوفاق والعلاقات الطيبة بين الدولتين المتجاورتين بما تفرضه المصالح المشتركة. لترسيخ هذا المفهوم أكدت الدراسة أن ميناء بورتسودان باطلالته على أهم محاور الملاحة الدولية- أي البحر الأحمر- يوفر فرصاً أوسع لتجارة الجنوب الخارجية صادراً ووارداً، بما يعود لاقتصاده ولمواطنيه بالخير. أشارت الدراسة إلى أن مقارنة تكلفة النقل (بحري+ سككي) عبر بورتسودان بالبدائل المطروحة لجنوب السودان في شرق أفريقيا هي حتماً لصالح بورتسودان والأرقام لا تكذب.ترى الدراسة أن النهضة الزراعية حتى وإن تحققت أهدافها المرجوة فإنها ستصطدم بعقبة تكلفة النقل البري الباهظة، والتي من شأنها إضعاف القدرة التنافسية لصادرات السودان إلى الأسواق العالمية. من جهة أخرى استندت الدراسة على دراسات سبق أن أعدها البنك الدولي حول الدور الحيوي والمؤثر لصادرات السلع الغذائية ذات القيمة التجارية العالمية (H.V.P) في اقتصادات بعض الدول النامية تشمل تلك السلع اللحوم الحمراء والدواجن والبيض والأسماك بالإضافة إلى الخضر والفاكهة التي للسودان فيها ميزات تفضيلية لا ينكرها أحد، إن أكثر ما يفتقر له السودان هو النقل السككي المبرد وهو أحد مقاصد هذه الدراسة.هنا أشارت الدراسة- مستندة على تقارير بنك السودان- إلى أن مجموع متوسط أوزان الصادر من هذه السلع للفترة ما بين 2004-2008م كان سبعة آلاف وخمسمائة طن، كما أن مجموع متوسط حصيلة الصادر لذات السلع كان عشرة ملايين دولار فقط! إنها حصيلة بائسة ومفجعة لا بسبب عزوف المزارع وأرضه عن العطاء، ولكن بسبب اعتمادنا على النقل الجوي في تصدير تلك السلع ومعلوم أن النقل الجوي هو الأكثر تكلفة. إن أهمية النقل السككي المبرد تتضح إذا ما أعدنا إلى الأذهان الكارثة التي مني بها محصول البطاطس في عام 2006م في ذاك العام حقق السودان إنتاجاً غير مسبوق في تاريخه من البطاطس، إذ فاق ربع المليون طن، لم يكن السوق الداخلي بهذا الحجم، فكان العرض يفوق الطلب بكثير، هبطت الأسعار إلى دون التكلفة، كما عجزت طاقة مخازن التبريد عن استيعاب كل المحصول، لهذا استخدم البطاطس كعلف للماشية كما تلفت كميات كبيرة، مما أوقع المزارعين في الخسارة والإعسار وباعسارهم تضرر أصحاب مخازن التبريد والبنوك!. أما في مجال السلامة فيعرف الجميع أن النقل البري تحول إلى ما يشبه المحرقة في السنوات الأخيرة، لقد راح ضحية حوادث الطرق الآلاف من أرواح عزيزة، وذلك بجانب عشرات الآلاف من المعاقين فجعت لآلاف من الأسر وضربها الفقر بسبب فقد من يرعونها، أو بسبب العلاج الباهظ التكلفة سواء أكان بالداخل أو خارج الوطن.. هنا أشارت الدراسة إلى أن نسبة ضحايا القطار إلى ضحايا الطرق هي 100:1 كما هو الحال في استراليا!. ترى الدراسة أن المشروع وإن اكتفى بالمرحلتين الأولى والثانية فقط- أي بورتسودان / أم درمان فهو قادر على أن يوفر لخزينة الدولة ما يفوق المليار دولار! يمثل هذا المبلغ استهلاك النقل البري- بضائع ومسافرين- من الوقود وإهلاك الشاحنات والبصات، وقطع الغيارت، والإطارات التي يمكن أن نضيف اليها إهلاك الطرق البرية، واتلاف السيارات، بسبب حوادث المرور، أما أرواح الضحايا ومعاناة المعاقين فهي لا تقدر بثمن. أن المشروع المطروح يدعو إلى إيقاف هذا النزف المالي، دون ذلك سيظل الاقتصاد السوداني يدور في حلقة مفرغة.. كساقية جحا!.