أهل علينا شهر الله الربيع.. وما أدراك ما الربيع.. هو ربيع الجغرافيا.. والتاريخ.. والموسم.. بل هو ربيع الحياة. ولقد شهد هذا الشهر المبارك.. ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. شهر قدومه إلى الدنيا، وإطلالته على هذا الكون منحته طعماً ورائحة ولوناً.. وأكسبته ألقاً.. وشفافية، هو قدوم مبارك عبرت عنه أمنا حليمة السعدية رضوان الله عليها، فقد كان من حظها أن ترضعه وتستضيفه في دارها في بادية بني سعد.. تلك البادية القاحلة.. فلمست تغيرات... وسعة في حياتها وحياة من حولها في تلك الصحراء.. أحست بأن حدثاً كبيراً حل في حياتها وباديتها.. كانت تشعر في كل دقيقة وساعة بخير وارد عليها فعبرت عن ذلك بعبارة ذهبية خالدة، قالت رضوان الله عليها(فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير منذ قدومه علينا)، هذه عبارات(مشروق) أحاطت به النعم.. فلمس بفطرته السليمة بأن هذا الرضيع هو مخلوق استثنائي.. وأنه رحمة لها ولمن حولها، ولقد صدقت فتاة بني سعد.. لأن هذا الرضيع سيكون رحمة للعالمين.. كلهم.. بل رحمة لجميع الكائنات. ولقد وصفه الحق الذي خلقه وعجن عجينته في قوله تعالى(وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين 107) الأنبياء.. والعالمون هم كل ما سوى الله، وكلمة (رحمة) هي مفتاح الدخول على الوجود في شريعة الإسلام، وهي سر تعلق قلوب المسلمين برسول الله.. حينما يقول عليه الصلاة والسلام عن نفسه(إنما أنا رحمة مهداة). والهدية.. تكون من غير ثمن فهي (مجانية). أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الوجود كله وانسجم معه، بل علَّمنا كيف ننسجم مع الكون.. خاصية الكون.. وانسجمت معه الحياة (وإن من شيء إلا ويسبح بحمده)، وتعلمنا منه كيف نسبح بحمد ربنا.. فتحقق للمسلم انسجامه مع الكائنات عندما يسبح.. وهو يعيد موقعه من منظومة هذا الوجود ويأخذ مكانه فيه مقبلاً على ربه.. مقدساً له شأن كل هذا الوجود ويتجلى انسجامه ورحمته عليه الصلاة والسلام مع الكون في مظاهر شتى: 1/ في عالم الجمادات: ففي الخبر أنه خاطب جبل أحد بعبارات حانية (أُحد جبل يحبنا ونحبه).. كأنما ذرات هذا الجبل.. تتجاوب مع سيد الأولين والآخرين ويبادله الحب في لغة خاصة.. وشفرة خاصة ويتحدث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجر في مكة فيقول (إني لأذكر حجراً بمكة كان يكثر من السلام على كلما مررت عليه). ولقد روى الإمام البخاري.. في صحيحه عن عبد الله ابن عمر أنه قال (كنا نسمع تسبيح الطعام في أول عهدنا مع رسول الله وهو يؤكل). هذا إخاء من نوع نادر مع عالم الجمادات.. فهي ونحن قد جمعنا هذا (الوجود) فقد نقلنا الله من عالم العدم إلى عالم (الوجود).. فتآخينا على هذه القاعدة. وهذا يعني.. كبير عميق يجعلك صديقاً للبيئة.. محباً لها. 2/ عالم الحيوان: يتجلى انسجامه عليه الصلاة والسلام مع عالم الحيوان.. في مظاهر كثيرة زخرت بها سيرته.. يتجلى في هذه المواقف رحمته لها وإنفعاله.. بقضايا. فقد روت الأحاديث إن إمرأة دخلت النار بسبب حيوان وأن رجلاً دخل الجنة بسبب حيوان أيضاً. فتذكروا المرأة التي كانت لها (هرة) أو (كديسة) حبستها.. فلم تطعمها.. ولم تطلقها لتطلب الرزق من مكان آخر، فدخلت النار كما أخبرنا الحديث (دخلت إمرأة النار في هرة). وتذكرون كذلك رجلاً مر في طريقه فوجد (كلباً) عطشان.. يكاد العطش يقتله فنزل إلى بئر قريبه.. واستقى من ماء البئر فسقى هذا الكلب فدخل الجنة. أي دين هذا؟ وأي رسول هذا؟. هذا محض الرحمة.. وألق الانسجام مع الكون. ولذلك يحمل لنا هذا الشهر.. ذكرى هذا القدوم المبارك.. قدوم محمد بن عبد الله.. صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا.. قدم اليها ليشكل حقيقة كونية ضخمة.. تركت أثرها على تشكيلة البشرية.. بل على الكون كله في عوالم الجمادات والحيوانات والنباتات. دعونا نحاول أن نكون (صوراً محمدية) تسعى بين الناس.