بانتصار ثورة 25 يناير في مصر وانهيار نظام الرئيس مبارك، طغى الفساد وظهر في البر والبحر وغطى على المشهد السياسي باعتباره السوس الذي دمّر الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، السوس الذي نخر في عظام النظام ذاته حتى أودى به للانيهار، إعمالاً للحكمة القديمة القائلة بإن السلطة المطلقة فسادٌ مطلق، وإن الاستبداد والفساد صنوان. ومصر عرفت الاستبداد بمعناه العام بعد قليل من انقلاب الضباط الأحرار أو «ثورة» يوليو 1952م عندما اختلف قادة الثورة، فانحاز محمد نجيب إلى قيام نظام ديمقراطي دستوري، ورأى فريق الأغلبية بقيادة عبد الناصر ضرورة استمرار «الثورة» لأن هناك قضايا تحرر لم يتم إنجازها بعد، وفي مقدمتها تحرير قناة السويس وإجلاء بقايا الجيش البريطاني وقواعده من الأرض المصرية، ومواجهة النظام الإقطاعي من أجل تحرير الفلاحين بالإضافة إلى اطلاع مصر بدورها الريادي في الصراع العربي الإسرائيلي من أجل تحرير فلسطين وتحرير الشعوب العربية التي لا تزال رازحة تحت نير الاستعمار، وللمساهمة في حركة التحرر العالمية، خصوصاً في آسيا وأفريقيا. وكان ذلك مبرراً كافياً في ظل أجواء النهضة التحررية التي كان يعيشها العالم حينذاك لانتصار وجهة نظر ناصر ورفاقه، فطالت «الإجراءات الاستثنائية» حتى اللواء نجيب نفسه الذي وضع قيد الإقامة الجبرية التي أمضى بقية عمره تحت وطأتها حتى غادر الحياة الدنيا. وبالرغم من أن ناصر بتصميمه وشفافيته ووطنيته قد نجا ونأى بنفسه من مستنقع الفساد الذي هو صنو الاستبداد، فخرج من الدنيا والسلطة دون أن يترك منزلاً خاصاً لعائلته أو حسابات في البنوك، إلا أن آخرين من حوله بدت عليهم مظاهر النعمة و «الاستفادة» من واقع «الشرعية الثورية» الذي تسلل من مساماتها الاستبداد، وكانت تلك «الاستفادة» ظاهرة محدودة ارتبطت بأسماء بعينها، في ظل المناخ التطهري الذي أشاعه ناصر «كمستبد عادل». لكن ما ان فارق ناصر الحياة وصعد أنور السادات إلى الحكم، وأقصى بحركة «15 يناير»1970 كل أعوان ناصر المقربين والمعروفين بتوجهاتهم السياسية الاشتراكية والقومية، حتى انفتح الباب للحيتان، مع سياسة «الانفتاح الاقتصادي» و «مصر أولاً» فتحوّل النظام من الاستبداد الاشتراكي إلى استبداد رأسمالي، ولم يصحب الانفتاح الاقتصادي انفتاح سياسي ديمقراطي، إلا في شكل إجراءات و«رتوش» تجميلية شكلية بإنشاء «المنابر» في الاتحاد الاشتراكي أولاً، ثم في السماح بقيام أحزاب «كرتونية» تؤخر ولا تقدم في معادلة التحول الديمقراطي، وجاء نظام مبارك ليحافظ على الإرث الساداتي ويزيد «الطاق طاقين» فيطلق العنان لرأسمالية طفيلية شرهة أعادت مصر إلى شيء أشبه بالنظام الإقطاعي في العهود الخديوية، فتحولت «الحيتان» إلى «غيلان». الليلة الماضية تابعت ندوة حول الفساد، الذي ظهر في البر والبحر مع رحيل عهد مبارك، على شاشة قناة «المحور» المصرية، شارك فيها المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة السابق، «المجلس هيئة للقضاء الإداري تابعة لرئاسة الجمهورية»، ومحمد عصمت السادات عضو مجلس الشعب السابق وعلاء عبد المنعم عضو مجلس الشعب السابق أيضاً، وكان موضوع الندوة هو دور «الجهاز المركزي للمحاسبات» الذي يوازي عندنا «ديوان المراجعة العامة». وهذا ما أوحى لي بالمقارنة بين ما يحدث في الجهازين ورئيسيهما، «جودت الملط» في مصر والسيد «أبوبكر عبد الله مارن» المراجع العام عندنا.فقد أوضح المتحدثون الثلاثة في ندوة «المحور» أن تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات كانت محظورة التداول، فهي تقدم للرئيس ولرئيس الوزراء ووزراء العدل ورئيس مجلس الشعب، ولا يتم نشرها، ومن الصعب الحصول عليها حتى بواسطة المحامين المهتمين بقضايا حقوق الإنسان والشفافية، مثل الدكتور علاء عبد المنعم المحامي الذي قال إنه كان يحصل على بعضها من خلال تجنيد علاقاته الخاصة. وأفاد المتحدثون أن هناك نحو ألف تقرير أُعد بواسطة جهاز المحاسبات في عهد حكومة السيد أحمد نظيف- آخر حكومة أطاحت بها الثورة- وأن الألف تقرير لم ترَ النور أبداً ولم تطرح للنقاش في مجلس الشعب ولم يتخذ فيها إجراء لا بواسطة وزارة العدل ولا القضاء، بالرغم من أنها تحتوي على «مليارات متلتلة»- كما يقول المصريون- وراحت تلك المليارات - وإلى إشعار آخر- «شمار في مرقة» كما يقول السودانيون . فبرغم أن تلك التقارير كانت تصل إلى كل أولئك المسؤولين بدءً من رأس الدولة وانتهاءً برئيس البرلمان، لكن لاحياة لمن تنادي، والسبب كما قال أحدهم بسيط، فجميعهم يعلمون علم اليقين أن تلك التقارير تحتوي على «جرائم غير عادية» يشوِّه نشرها صورة النظام ويضعه عارياً أمام أنظار المواطنين، فعمدوا إلى حجبها عمداً، كما أن مجلس الشعب كجهاز للرقابة والتشريع لم يكن قادراً على فعل شيء، نظراً للمصالح «التحتية» التي تربط بين الكثير من أعضائه ورؤساء لجانه بالجهاز التنفيذي- رئاسة الجمهورية والوزراء، فهم كما يقول المثل «في فم كل منهم ماء». مظاهر الفساد في مصر كثيرة وتفوق كل التوقعات، يتحدثون عن المليارات التي تم تهريبها إلى الخارج، ويتحدثون عن آلاف الأفدنة التي يحوزها المتنفذون بمبالغ رمزية كاستثمارات زراعية ويحولونها بين غمضة عين وانتباهتها إلى مدن سكنية أو إلى أراضٍ صناعية، ويبيعونها لمستثمرين أجانب بمئات الملايين أو المليارات، ويتحدثون عن ما لا يمكن تصديقه، كأن تكون مثلاً «الهيئة العامة للبترول» مدينة وخاسرة بأكثر من 8 مليار جنيه، وتسعى لاستلاف 13 ملياراً أخرى حتى تغطي عجز موازنتها، وحتى الشركات التي أنشأتها وزارة البترول عمدت إلى توظيف العديد من أبناء نواب مجلس الشعب وجهاز أمن الدولة وزوجاتهم بمرتبات خرافية، وذلك لضمان الولاء و«التطنيش». وقال المستشار الجمل إن جهاز المحاسبات مرتبط برئيس الجمهورية، وهو لا يستطيع فعل شيء تجاه الرئيس ومعاونيه ووزرائه أو أعضاء مجلس الشعب، لما يتمتعون به من حصانات، وأفاد بأنهم أعدوا مشروع قانون بتبعيته لمجلس الشعب لتحريره من التبعية للسلطة التنفيذية ليرسل تقاريره إلى مجلس الشعب مباشرة، وأن لا يُعين رئيس الجهاز ولا يُعزل إلا بواسطة مجلس الشعب حتى يتمكن من لعب دوره، ولكن طبيعة النظام الشمولي حتمت إلغاء ذلك القانون ليجعلوه تابعاً لرئيس الجمهورية الذي هو في النظام الرئاسي رئيس للجهاز التنفيذي يستطيع أن يفتح أو يقفل أي ملفات، وهذا ما أدى إلى تراكم آلاف التقارير من دون بحث أو محاسبة. مظاهر الشبه بين جهاز المحاسبات المصري وديوان المراجع العام عندنا كثيرة، وبالرغم من الاختلاف في بعض التفاصيل، فإن النتيجة النهائية واحدة فيما يتعلق بالاعتداء على المال العام، فالجميع هنا قد تابعوا - لحسن الحظ- التقارير التي يرفعها المراجع العام السابق أبوبكر عبد الله مارن- إلى مجلس الشعب وأرقام التجاوزات المليارية، ونسبة الاسترداد المتدنية التي تراوح في حدود «5» أو «6» في المائة من تلك الأموال المنهوبة، وتلك تقع في خانة الاختلاف في التفاصيل. ففي مصر لا يسمع عنها أحد، وهنا تُعلن وتسجل في مضابط المجلس الوطني ويعرفها الناس.. لكنها معرفة «لا تودي ولا تجيب»، لأن من نهبوا أو اختلسوا أو أهملوا أو ارتكبوا مخالفات إدارية لا يخضعون للمحاسبة القضائية أو العدالة الناجزة، بل يتم التحايل عليهم وعلى المال العام من خلال ما يسمي ب«التسويات»، ويستمرون في تصريف وظائفهم و«أعمالهم» وكأن شيئاً لم يكن، يعني هنا «على عينك ياتاجر»، وربما تكون تلك «جرأة في الباطل» لم يملك «السادة» في مصر الشجاعة اللازمة «لاقترافها».هذا غير ما هو معلن من أن وحدات حكومية ترفض المراجعة و«الما عاجبو يخبط رأسه بالحيط».سألت فقيهاً قانونياً ضليعاً حول التكييف الدستوري والقانوني لديوان المراجعة العامة في بلادنا، وهل هو تابع للرئاسة والجهاز التنفيذي كما هو الحال في مصر، فأفادني بأن المادة «205» من الدستور الانتقالي لعام 2005م تنص على أن «ينشأ ديوان للمراجعة العامة على المستوى القومي»، وأن الفقرة «3» من تلك المادة تقول: «يعين رئيس الجمهورية بموافقة أغلبية الثلثين في المجلس الوطني المراجع العام، ويتم عزله بذات الإجراءات التي عُين بها»، ورأي ذلك الفقيه والخبير القانوني عيباً في الجزئية المتصلة بقاعدة العزل، فلا يصح- كما قال- أن تتمتع جهة تخضع لمراجعة المراجع العام بسلطة عزله، وهذا تنشأ عنه شبهة «عدم الاستقلالية» التي يتطلبها عمل المراجع، الذي يقوم بمراجعة هيئة الرئاسة والبرلمان، وهو ما يقود إلى تضارب المصالح، وبالتالي كان يجب أن يكون العزل خاضعاً لشروط أخرى مثل ارتكاب المراجع لمخالفات جنائية أو الإدانة من قبل محكمة في جرائم مخلة بالنزاهة والشرف، مثلما يحدث في دول أخرى، حيث يتم العزل من خلال محاكمة سياسية أو قانونية أمام أنظار الرأى العام، وليس من خلال إجراءات إدارية. هذه بعض أوجه الشبه الكثيرة والاختلافات القليلة بين ما حدث في مصر وما يحدث عندنا في ما يتعلق بإدارة المال العام، الذي هو «مال الشعب» وعلى قول المثل «يخلق من الشبه أربعين».