وأعني بالمعارضة الشمالية أحزاب المعارضة التي شاركت في مؤتمر جوبا من الشمال، وكان لها الدور الأكبر في تسيير مسيرتين بأم درمان، كانتا بكل المقاييس فاشلتين، فقد تفرقتا في مواجهة قوات شرطة محدودة في مسافة قصيرة بشارع الموردة، دون أن تحركا الشارع العريض بمدينة أم درمان المكتظة بالسكان، ودون أن تتركا أي أثر في أحداث العالم سوى فقاعة إعلامية سرعان ما أفرغت من محتواها، وكان هدف المسيرة الأولى كما أعلنته الحركة الشعبية هو ممارسة الضغط على المؤتمر الوطني لتمرير قوانين لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، بينما أجيزت 95 قانوناً متأثرة بالدستور الانتقالي واتفاقية السلام الشامل.. أما المسيرة الثانية فقد جرت بعد اتفاق الشريكين وبدون مشاركة فاعلة للحركة الشعبية. وأما الهدف المعلن لأحزاب المعارضة الشمالية في المسيرتين فهو إشعال الشرارة الأولى لثورة شعبية على النظام على غرار ثورة اكتوبر أو انتفاضة أبريل، وهو خطأ تاريخي فادح في التقدير لاسقاط النظام قبل الانتخابات، فلم يسقط النظام وإنما سقطت أهلية هذه الأحزاب الشمالية للسلطة أصلاً، مما لا يغري الحركة الشعبية بالارتباط معها مستقبلاً، كما أن هذا الصنيع الفطير من أحزاب المعارضة الشمالية أفقدها احترام الشعب واحترام العالم، واليكم الشواهد والدلائل: أولاً: ليس هذا النظام الذي تستهدفه هذه المعارضة الشمالية الآن بالثورة الشعبية، كنظام عبود أو كنظام نميري، شمولياً لا يسمح بالتعددية الحزبية أو الحريات السياسية، وقد حقق من المكتسبات للشعب ما غيَّر وجه الحياة في السودان تماماً، سواءً في التنمية الاقتصادية أو التنمية السياسية أو تنمية الموارد البشرية. وهو يسعى، وهذا من حقه، لاستكمال هذه النهضة الشاملة، ولكن من خلال الانتخابات العامة التي يضمن لها رقابة داخلية وخارجية لصيقة. أي أن الانتخابات هي أبرز معالم التحول الديمقراطي، تشرف عليها مفوضية قومية اعترفت سائر القوى الحزبية، بما فيها احزاب المعارضة الشمالية، بحيدتها، ثم إنها تجري وفق قانون للانتخابات متميز حتى على التجارب الديمقراطية في الغرب!! فهو يعطي للمرأة 25% من مقاعد البرلمان التشريعية اتحادياً وولائياً، في كلية انتخابية خاصة بها، كما يتيح التمثيل النسبي للأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية وقد بدأت هذه العملية بالفعل، في مرحلتها الأولى، وهي التسجيل الذي مر بسلام في سائر ولايات السودان، حتى بلغ 75% من جملة المستحقين للاقتراع، وتمضي المراحل الأخرى طبقاً لجدول زمني معلن سلفاً، فلم يبقى أمام هذه الأحزاب الشمالية سوى الاحتكام لصناديق الاقتراع وهو على الأبواب.. وقد كان المراقبون يرون أن ذلك هو منتهى مراد هذه الأحزاب، ولكنهم بدأوا يشعرون أن هذه المعارضة تنظر بالخشية من هذه الانتخابات أن تعطيها أوزانها الحقيقية، بينما هي تريد أن تظل عالية الأصوات بدون سند شعبي!!. ثانياً: وافق يوم المسيرة الأولى آخر أيام التسجيل بأم درمان، فشهدت مراكزها تزاحماً غير مسبوق في الأيام الفائتة للتسجيل، وكأن هذا الشعب الذي قدرت هذه المعارضة بأنه سيثور على النظام قد رد في الاتجاه المعاكس، فقام بالثورة الشعبية الديمقراطية، ولكن على المعارضة، وليس على النظام، وهو يمارس حقه المشروع من حقوق المواطنة بالتسجيل للاقتراع. أما المسيرة الثانية فقد (أجهضتها) جماهير كرة القدم، فقد انشغل سائرهم بالاستعداد لمباراة كأس السودان بين الهلال والمريخ في نهاية اليوم، فانظر إلى ثورة شعبية تطيح بها مباراة في كرة قدم!!. ثالثاً: يتطلع العالم، بما فيه الدول الكبرى ودول العالم الثالث، إلى التجربة الانتخابية الوشيكة في السودان ليحكم بها على مدى تطوره السياسي، أو تحوله الديمقراطي، من خلال مؤشرات لمدى نزاهتها التي فقدتها في تجارب معاشة في افريقيا وآسيا.. فإذا بالمعارضة الشمالية تقوم بعمل صغير يهدف إلى تعويقها أو حتى ارجائها.. وكان العالم ينتظر من هذه المعارضة أن تشدد رقابتها على العملية الانتخابية من خلال حضورها الدائم، عن طريق مندوبيها، سواء في عملية التسجيل أو عملية الترشيح أو عملية الاقتراع، أو ما بين هذه العمليات من مراحل الطعون، وأن تمارس حراسة صناديق الاقتراع حتى مرحلة عدها قبل إعلان النتائج.. هذه هي الرقابة الذاتية التي هي أهم من الرقابة الخارجية، التي ستتاح على أوسع نطاق، وهو ما ينتظره العالم من الأحزاب المعارضة. ولا ريب أن العالم يفرق بين مشاركة الحركة الشعبية في المسيرتين لأجندة خاصة باتفاقية السلام الشامل، وبين مشاركة الأحزاب الشمالية فيهما بهدف معلن هو الثورة الشعبية لاسقاط النظام. فالعالم لا يحترم الأعمال غيرالديمقراطية على أبواب تحول ديمقراطي. ولذلك كان رد الفريق أول سلفاكير ميارديت على من يسعون لاسقاط النظام- وهو ما ينبغي أن تدركه أحزاب المعارضة الشمالية- هو قوله:(البشير وأنا في سرج واحد فإذا سقط هو سقطت أنا معه). والله المستعان