تدخل الانتخابات العامة بعد أيام المرحلة قبل النهائية لمرحلة الاقتراع، وهي مرحلة الحملات الانتخابية، وما يصاحبها من دعاية انتخابية، ولا أحسب أن البشير يحتاج إلى هذه الدعاية، سوى برنامج سياسي لاستكمال النهضة التي وضع أسسها وأرسى قواعدها. وذلك لمن يستقرئ الأحداث في الفترة الأخيرة في مستوى الوعي السياسي الذي يتمتع به هذا الشعب، فيستنبط منها مؤشرات ثلاثة تدل على أنه سواء في قيادة المؤتمر الوطني أو في قيادة حكومة الوحدة الوطنية، هو الخيار الراجح في هذه الانتخابات، وهذه المؤشرات هي: أولاً الاجماع الشعبي الكاسح الذي عبر عن نفسه بشتى أشكال الرفض القاطع للتعامل مع (الجنائية)، وهو ما فاجأ المجتمع السياسي نفسه بعفويته وتلقائيته، وهي ثورة شعبية ابتدعتها العبقرية السودانية التي لا ينضب معينها تضاف إلى أدب الثورات التي يحتل منها هذا الشعب موقع الأستاذية، وهي ثورة شعبية كالثورات الشعبية التي قادها هذا الشعب في تاريخه الحديث، فهي لم يحركها حزب سياسي، ولم تنظمها جماعة، ومظاهرها متشابهة في كل مكان بالبلاد، لا يتصدرها خطباء أو محمسون، إلا أن هدفها هذه المرة مختلف في المضمون وإن تشابه في الشكل، فالثورات الشعبية السابقة قد قامت للإطاحة بالأنظمة القائمة، بينما هذه الثورة تتمسك بقيادة النظام القائم وترفض أدنى مساس به سواء من قوى خارجية أو قوى داخلية متآمرة معها، ولا أوافق من يفسرون هذه الثورة الشعبية بأنها رفض للمساس برمز السيادة الوطنية فحسب، وإنما هي ثورة رفض لمن يريد أن يمس من يحسن تمثيل هذه السيادة، بما حققه من مكاسب قومية تمتد مكاناً وزماناً.. أما مكاناً فلأنها مكاسب شاملة لكل جهات السودان، وأما زماناً فلأنها مكاسب لهذا الجيل وللأجيال القادمة. ثانياً: امتدت تلك الثورة الشعبية العارمة إلى ثورة شعبية صامتة، وهذه إبداعة أخرى في أدب الثورات، وذلك إزاء المسيرتين الضعيفتين اللتين نظمتهما أحزاب المعارضة بهدف معلن، هو تحريك الشارع لاسقاط النظام قبل الانتخابات بالثورة الشعبية!! وما علمت هذه الأحزاب أنها تصادم ثورة شعبية صامتة ضدها هي، فلم يتحرك شارعها إلا مسافة قصيرة بين دار حزب الأمة القومي ومقر المجلس الوطني من شارع الموردة الطويل العريض!! فقد عزل الشارع المسيرتين، مرة بانصرافه لآخر أيام التسجيل، حيث مراكز التسجيل المكتظة، ومرة بالاستعداد لمباراة القمة بين فريقي الهلال والمريخ ذات الحضور الكثيف!!. ثالثاً: وهو مؤشر انتخابي خالص، فالزعم بتشتيت الأصوات بالأكثار من المرشحين لرئاسة الجمهورية، حتى لا ينال البشير الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى من الانتخابات، فزعم يخطئ التقدير، ولكنه يحمل اعترافاً ضمنياً بأن أحزاب المعارضة تواجه في هذه الانتخابات رقماً عملاقاً له شعبية كاسحة تصعب منازلته إلا بهذه الحيل السياسية اليائسة في الزمن الضائع من عمر المباراة الانتخابية، فتشتيت الأصوات يشبه تشتيت الكرات في لعبة القدم، لا يلجأ إليه اللاعبون إلا في ظروف فريقهم الحرجة!!. تلك مؤشرات تحمل وراءها دلالات، وهي أن البشير لا يحتاج إلى دعاية انتخابية، وقد أدرك هذا الشعب الوفي أن تمسكه بقيادته في هذه المرحلة الدقيقة هو الخيار الراجح، فعبر عن ذلك بالثورة الشعبية المتحركة الرافضة (للجنائية) وبالثورة الشعبية الصامتة الرافضة لتحركات المعارضة، وسيتبعها بالثورة الشعبية الناطقة عبر صناديق الاقتراع، هل يحتاج البشير إلى دعاية انتخابية وهو من قاد مشروع النهضة الشاملة، بمعلمين بارزين في تاريخ السودان الحديث.. البترول وسد مروي، وما حولهما وما قبلهما وما بعدهما من مكاسب قومية كبرى مؤثرة في حياة المواطنين. أما استخراج البترول تجارياً فقد أعاد للشعب كرامته المهدرة في صفوف البنزين أمام محطات الوقود ليلاً ونهاراً في العهد السياسي السابق، هذا علاوة على إهدار كرامة المواطن في توزيع السكر (بالوقية)، ورغيف الخبز بحد الكفاف، أين نحن اليوم من ذلك العهد، حيث لازالت أرشيفات الصحف، ومحاضر الجمعية التأسيسية، تحفظ ذكراه الحزينة، التي يمكن إعادة انتاجها بسهولة لمصلحة الأجيال، التي لم تعايشها أو لم تتذكرها. وأما بناء سد مري فوراءه إرادة سياسة قوية صارعت المستحيل في ظروف العقوبات الجائرة، والمقاطعات الظالمة، والاتهامات الأكثر جوراً وظلماً، والتي لم تفلح في كسر حرية القرار السياسي ولا في النيل من السيادة الوطنية، وحق للشعوب التي بنت مثيل سد مروي كالسد العالي، أن تتغنى حتى اليوم بعظمة الصنيع التاريخي العظيم.