يظن البعض أن ما يُعبّر عنه المعاصرون بقاعدة (من أين لك هذا) هو أمر مستحدث، لا علاقة له بمن حكم من السابقين من حكام، من أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الخليفة العادل الملهم الذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) (إن كان في هذه الأمة مُحدّث فعمر)، يعني شخص مُلهم وموفق، فقد استخدم عمر هذه القاعدة استخداماً واضحاً نقلته كتب الفقه المختلفة، التي ذكرت في شرحها لقاعدة: (دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه) فذكرت أن لهذه القاعدة صلة وثيقة بمبدأ القضاء بالقرائن، والأمور الباطنة المقصودة هنا: هي الحقائق المخفية المحجوبة التي يتعذر أو يتعسر الإطّلاع عليها، مع أنها تختلف بوجودها وعدمها الأحكام، وتحتاج إلى إثبات، فما كان كذلك فالشرع لا يبحث عن حقيقة وجوده في الواقع، بل ينظر إلى دلائله فيقوم وجودها مقام وجوده، وترتبط الأحكام بتلك الدلائل وجوداً وعدماً، ولا يلتفت إلى احتمال خلافها. فالإرادة الحقيقية مثلاً في (العقود) هي (خفاء) فيقوم دليلها وهو الإرادة الظاهرة بالإيجاب والقبول مقامها، فينعقد بهما العقد ما لم يتحقق انتفاء الإرادة الحقيقية، وترك الإدعاء بالحق مدة التقادم مع عدم المانع من الإدعاء دليل على أن المدعي غير محق في الواقع، فلا تقبل دعواه إلا أن يقر خصمه فتنتفي الريبة. ومن الفروع المهمة لهذه القاعدة السابقة التي ذكرنا نصها القائل (دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه)، فمن فروعها المهمة قولهم (من أين لك هذا) هذه القاعدة المهمة في أعمال الإدارة العامة، والتي تعنى بعمال الحكومة وجباتها وكافة مسؤوليها إذا ما ظهرت عليهم مظاهر الغنى وبنوا الأبنية دون أن يعرف لثرائهم مصدر، فكان ذلك دليلاً على خيانتهم وارتشائهم، فيجوز عزلهم ومصادرة أموالهم ما لم يثبتوا لها مصدراً. وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان إذا استعمل عاملاً (موظفاً) أحصى ماله في سجل مكتوب ثم إذا وجد عنده فضل ليس له مصدر صادره أو شاطره إياه على حسب قوة التهمة ووضعه في بيت المال، وقد كان رضي الله عنه قد مرّ ذات مرةٍ ببناء شاهق يبنى بالحجارة والجص فقال: لمن هذا؟ فذكروا له عاملاً له في البحرين فقال: (أبت الدراهم إلا أن تُخرج أعناقها) وشاطره ماله (يعني قاسمه) بأخذ نصفه منه وكان يقول: (لي على كل خائن أمينان الماء والطين). وقد صادر (الحارث بن وهب الليثي). وقال له (ما قلاص وأعبد بعتها بمائة دينار) والقلاص بكسر القاف: جمع قلوص وهي الناقة الفتية) قال: خرجت بنفقة لي فاتّجرت فيها قال: إنا والله ما بعثناك للتجارة أدِّها قال: أما والله لا أعمل لك بعدها فقال عمر: أنا والله لا استعملك بعدها!. وهذا منقول من (سيرة عمر بن الخطاب للأستاذين القاضيين الأخوين علي وناجي الطنطاوي ح/1/ص 231-233 والإصابة ج/4/ ص220 وعيون الأخبار لابن قتيبة ح/1/ص53، وما كان يفعله عمر بن الخطاب هذا من سياسة هو ما يُعبر عنه المعاصرون اليوم بقاعدة (من أين لك هذا)، ويطالبون فيه بسن قوانين له بعد أن أصبح كثيرون من رجال الحكم والموظفين على غنى واسع جديد لا يعرف له مصدر عندهم سوى الخيانة واستغلال الوظيفة، وقد كان في هذه المبادئ والأحكام الشرعية العلاج التشريعي المطلوب، وهذا ما دفع رئيس الجمهورية مؤخراً بتوجيهه بإنشاء مفوضية لهذا، ولا شك أن الجميع قد استبشر بهذا الإعلان، أرجو أن يجد ما بشر به رئيس الجمهورية النور قريباً.