وما زلنا نحاور الإنقاذ.. وما زلنا نقدم النصح والكلام «الببكي» للإنقاذ.. وما زلنا في منعرج اللوى.. وكل خوفنا أن يستبينوا النصح ضحى الغد.. وما زلنا في ميدان التحرير.. نرصد وقد رصدنا.. الأيام السابقة.. جملة من العوامل.. بل المظالم.. أو هي الأخطاء الفادحة.. التي ارتكبها النظام المصري.. والتي «غطست حجر» مبارك.. وكل معاون طاغية جبار متجبر.. أو متوحش صفيق.. واليوم.. نذهب إلى لائحة أخطاء النظام المصري، ونجد في القائمة أن النظام.. قد جانب وجافى العدالة الاجتماعية.. وإن هناك ملايين العطالى من الشعب.. بينهم من يحملون شهادات جامعية.. ونذهب مباشرة إلى الخرطوم ونتلفت.. لنجد أن تلك الصورة الحزينة تطابق المثلثات بضلعين وزاوية مع صورة السودان.. فها هم أبناء الوطن.. يتحاومون من ضل إلى ضل.. والسعيد منهم من أسعده الله وابتسمت له الظروف ووجد كنزاً من الحظ.. فأصبح سائقاً ل«ركشة».. أو بائعاً للصحف أو الطماطم أو السبح.. والمفارقة أنهم كلهم وفي جيوبهم الخلفية.. وفي بنطلوناتهم المهترئة وعلى جيوبها المبهدلة.. ترقد.. ورقة مكرفسة.. هي شهادة بكلاريوس آداب أو اقتصاد أو محاسبة.. ليس ذلك هو كل المأساة.. إن المأساة الحقيقية هي ذاك الشعور الطاغي.. بل الرهيب والمدمر.. الذي سكن داخل تجاويف صدورهم.. وهو فقدان الأمل كلياً وتبدد الثقة نهائياً في عدالة التوظيف وتكافؤ الفرص.. هنا يكمن الخطر.. الذي يمكن أن يتمدد حتى يصل مرحلة انفصام وأنفصال عرى هؤلاء الشباب بالوطن نفسه.. وهذا البند تحديداً هو الذي ساهم في تلك الهبة الهائلة التي أطاحت بالنظام المصري.. وهي الظروف التي يعيشها بكل تفاصيلها شباب الوطن.. وتزيد حالة السودان على مصر.. بشيء.. لم يحدث مطلقاً في مصر، وهو تلك الجيوش الجرارة التي قذف بها إلى عرض الشارع قانون الصالح العام.. وأقول جيوشاً جرارة.. لأن كل مفصول.. رجلاً كان أو امرأة.. نجد أن وراءه أسرة كاملة تعيش معه المأساة والحسرة.. ولا تثريب عليهم إذا امتلأت قلوبهم بالحقد.. والغضب.. وعامل آخر.. من عوامل ثورة التحرير.. هو التوريث.. وهنا ولله الحمد ليس لدينا.. أو حتى في الأفق.. شبح أو ظلال «توريث» ولكن لدينا.. ما هو أشد خطراً من التوريث.. وهو إننا ولمدى عشرين سنة وتزيد.. نرى بعيون جرحتها الفجيعة.. أشخاصاً بعينهم.. يتجولون.. من وزارة إلى وزارة.. من وزارة إلى ولاية.. من ولاية إلى مستشارية.. لا يتغيرون مطلقاً ولا يتبدلون.. لا يفارقون موقعاً.. إلا وانفتحت أمام خطواتهم مواقع.. نسأل.. هل صار السودان.. كل السودان.. حكراً مطلقاً فقط لهؤلاء؟.. وهل عقمت حواء الوطن.. أو توقفت أو أضربت عن الإنجاب؟.. لماذا فقط خمسون أو ستون شخصية فقط هي التي تدير هذا الوطن الفسيح.. وإلى متى هذا السيل من الترضيات و«المجاملة».. على حساب الوطن.. وما هو ذاك النجاح.. لنراه ذاك الذي يجعل وزيراً.. أو دستورياً يبقى في موقعه لعشرين سنة وتزيد.. نعم.. ليتنا ابتلينا بالتوريث.. على الأقل نكون أمام شخص واحد.. ولكن أن يتحكم في أقدار وطن بحجم قارة وشعب.. هو خير من مشى على الأرض من بين الشعوب، أن يتحكم في مصيره ومصائره.. رجال لا يتغيرون ولا يتبدلون.. ولا يغادرون أماكنهم.. هو.. أسرع عامل.. لإشاعة.. اليأس في نفوس الشعب.. ومرة أخرى نذهب إلى ميدان التحرير.. لنجد أن النظام قد اختلط تماماً، بل ذاب تماماً في الحزب الحاكم.. ونأتي إلى الوطن.. لنجد أن الفوارق.. قد مسحتها سيول أمطار.. فلم يعد هناك فاصل ولو كان في سمك «السبيبة» ليفصل بين المؤتمر الوطني.. والإنقاذ.. صحيح أن كل البلاد الديمقراطية.. يأتي بحكامها حزب أو ائتلاف أحزاب.. ولكن وبمجرد أن تشكل الحكومة.. يذهب بعيداً الحزب حتى جولة انتخاب أخرى.. وتصبح الحكومة.. هي الحكومة.. وبالله عليكم استمعوا إلى أي نشرة أخبار في الإذاعة أو التلفزيون.. وأحصوا عدد المرات التي يتردد فيها «المؤتمر الوطني».. تجدوا.. إن المؤتمر الوطني.. هو الجلد والرأس والأول.. والثاني.. والعاشر.. والخيمة والعمود.. والحيطة والركيزة ونقف هنا وغداً نواصل..