تماماً، كما توقع جميع المراقبين وذوي البصيرة التحليلية، بدأت دوائر الفعل المصري تنداح بسقوط الصخرة العملاقة على سطح البركة المصرية الآسنة وسقوط النظام، دائرة إثر أخرى، فعم الحراك الجماهيري، المتفلِّت من مخالب الأنظمة الحديدية، المنطقة برمتها من الخليج إلى المحيط.. من الجزائر وليبيا والمغرب العربي، إلى الأردن والبحرين وإيران، ولم يستثنَ حتى السعودية التي أعلن خمسة من الناشطين فيها تشكيل حزب سياسي لأول مرة في تاريخ الجزيرة العربية هو «حزب الأمة»، بينما أعلن أحد أمرائها- طلال بن عبد العزيز- أن على الأسرة الحاكمة إجراء إصلاحات سياسية تستبق ولوج البلاد إلى لجة الاضطرابات المتتالية، وتلك قصصٌ أخرى سنعود لكل منها في حينها، ولكن ما يهمنا اليوم في هذه «الإضاءة» هو فهم ما جرى في قلب العالم العربي ومركزه الرئيس - مصر «المحروسة»- وكيف حدث فيها ما حدث، بعد موات وسكون دام قروناً متطاولة. منذ انفجار الثورة الشعبية الديمقراطية في مصر في الخامس والعشرين من يناير الماضي،انصرفتُ، كالعادة، افتش فيما بين يدي في كتب التاريخ، لاعتقاد راسخ وملازم بأن فهم الحاضر يستلزم النظر إلى الوراء، إلى التاريخ باعتباره مستودع الاستبصار والاعتبار، ومن محاسن الصدف أن مكتبتي الصغيرة كانت تحوي فيما تحوي مختصر كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، وبدائع الزهور عمدة في تاريخ مصر الشامل، فصاحبه محمد بن أحمد بن إياس الحنفي «أبو البركات»، هو مؤرخ وباحث مصري من المماليك، وكان أبوه أحمد متصلاً بالأمراء ورجال الدولة، فاشتغل ابن إياس بالتاريخ ونظم الشعر، وعاصر الأحداث الأخيرة من حكم السلاطين المماليك الشراكسة وشهد الفتح العثماني، ويعتبر كتابه «بدائع الزهور» من أهم مراجع عصر اضمحلال دولة المماليك. والكتاب الذي يعتمد في أجزائه الأولى من أجزائه الخمسة، البالغ عدد صفحاتها 3360 صفحة، على الذاكرة الشعبية للمصريين وما توارثوه كابراً عن كابر حول تاريخ بلادهم وأصولهم وعلاقاتهم بالأمم الأخرى القريبة والبعيدة، وبرغم ما قد يلحق بهذه الذاكرة من الاضطراب أو التحريف أو عنصر الخيال، لأسباب ودوافع شتى، إلا أن هذه الذاكرة الشعبية- كما يرى العديد من المؤرخين- تبقى عنصراً مهماً في كتابة التاريخ، وأهم ما فيها أنها تقدم للمحلل الاجتماعي والمتابع السياسي صورةً لكيف يفكر شعب ما في نفسه، كيف يراها، وكيف يبرر سلوكه إزاء الأوضاع المحيطة به، وهذا بعض ما اهتم به ابن إياس، مثل ما اهتم به شاعر مصر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي في مقال مهم له في «الأهرام» يوم الأربعاء الماضي، جاء تحت عنوان «الثورة تسقط الانقلاب» أعادت نشره هنا جريدة «الأحداث». ففي ذلك المقال يقول حجازي: نحن المصريين كنا مضطرين دائماً لأن نخاف من السلطة التي كانت بطبيعتها متوحشة معنا، لأنها طوال القرون التي فقدنا فيها استقلالنا كانت السلطة أجنبية لا تربطها بنا علاقة تبرر وجودها في بلادنا ،أو نخفف من بطشها ونجعلها رخيمة معنا، خاصة ومعظم الأجانب الذين حكمونا قادمون من مجتمعات بدائية وثقافات تميزت بالعنف والاستهتار بالحياة الإنسانية، والذين أرخوا عندنا للمماليك والترك كابن إياس والجبرتي يحدثوننا عن صور من الوحشية تثير الرعب حتى الآن، من هنا تعلمنا أن نخاف السلطة ونتحمل شرورها في ما هو دون التشريد والاعتقال والتعذيب إلى حد الموت، وكلها كانت ممكنة ومضمونة للنظام المنهار بما يملك من أجهزة معروفة وأجهزة خفية، ومن قوانين يعملها وأخرى يبطلها. وبالرغم من إلقاء حجازي اللوم، فيما حاق بالشعب المصري من عنت اضطره لخشية الحكام وتجنب الصدام معهم، على فقد مصر للاستقلال وتغول الأجانب على مصائرها، إلا أن لمؤرخين مصريين لامعين كصديقنا د. سيد القمني رأي آخر حتى في الحكام الوطنيين الذين تسيدوا على مصر في العصور الغابرة «كالفراعنة»، وأذكر أنني في العام 1999م ،عندما كنت أرافق الدكتور القمني في سيارته التي يقودها ابنه محمود، ومررنا بالقرب من اهرامات الجيزة، التي يسكن سيد بالقرب منها، وأبديت دهشتي وإعجابي بالاهرامات، وكيف تسنى لأولئك القوم في تلك العهود السحيقة بناء هذه المعجزات، ردّ عليّ الدكتور القمني بما لم أتوقعه، حيث قال: ما هذه الاهرامات إلا أكبر دليل على ما عاناه الشعب المصري من قمع وسخرة واضطهاد، وأن الكشوفات الأخيرة قد أوضحت أن الآلاف المؤلفة من العمال والناس العاديين قد ماتوا من أجل تشييد هذه الأبنية الخرافية العبثية، وأضاف: لقد أورثتنا هذه الأهرامات حياة الذل والمسكنة وتقديس الحكام الطغاة وتقديم أرواحنا قرباناً لرغباتهم الشريرة وغرروهم المريض. وهذا أيضاً ما يقرره ابن إياس المحب لمصر والمصريين، وهو كما يفعل حجازي والقمني، يقول فيما يتصل بأخلاق أهل مصر وطبائعهم وأمزجتهم: اعلم أن طبائع أهل مصر وأمزجتهم وأخلاقهم «خاضعة لظروفهم»، وفي أخلاقهم رقة وعندهم بشاشة ومَلَق ومكر وخداع ولهم كيدٌ وحيل، و«خُصُّوا بالأفراح دون غيرهم»، وهذه الأخيرة إشارة إلى قدرات المصريين الإبداعية التي تميزوا بها اليوم. هذا التأكيد على أن أخلاق المصريين «خاضعة لظروفهم» - كما يقول ابن إياس- نجده عند حجازي أكثر وضوحاً وبلاغة، عندما يقول: المصريون فلاحون آباء عن أجداد يعيشون ويعملون في أرض سهلة مفتوحة، لا مهرب منها ولا ملجأ من بطش الحاكم الذي نعرف أنه كان أجنبياً لا يعرف البلاد ولا يتكلم لغتها ولا ينتمي لأهلها. وحتى عندما انتقلت السلطة إلى أيدي من ينتسبون لنا ظلت علاقتهم بنا قائمة على القهر والقمع والتخويف والترويع، وتحول الحكام المصريون إلى ورثة أوفياء للتقاليد الاستبدادية الوحشية التي اتبعها معنا الغزاة الأجانب منذ أن أنهارت دولتنا الوطنية- دولة الفراعنة- في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى أن هبَّ آباؤنا يطلبون حريتهم واستقلالهم من المحتلين البريطانيين في ثورة 1919م التي جاءت بديمقراطية وليدة لم تنتفع بها إلا الطبقات الميسورة، ثم تلاها انقلاب يوليو الذي استكثر صُنّاعة علينا هذه المساحة المحدودة من الديمقراطية، فأعادونا إلى ما كنا عليه أيام الأتراك والمماليك. وفي تفسيره للسؤال الأساس: كيف حدث ما حدث، دون قيادة ودون مقدمات كما يبدو في الظاهر؟ يرى أحمد عبد المعطي حجازي ضرورة الوقوف عند الباعث الذي حرك الثورة باعتبارها فعل بشري لا تمنعنا عظمته من فهمه وتفسيره، والإجابة يقدمها الثوار أنفسهم حين يسألون عن هذا الباعث، وهي أنهم ثاروا على الطغيان المتمثل في السلطة ومؤسساتها والقائمين عليها، وعلى الفساد الذي تسبب فيه الطغيان ، وهم بالتالي يطالبون بديمقراطية حقيقية يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه، فيختار حكامه ويراقبهم ويحاسبهم ويفرض عليهم أن يمتثلوا لإرادته، ويلتزموا المبادئ والقوانين التي تضمن للإنسان حريته وكرامته وأمنه ورخاءه، فثورة 25 يناير لم تكن ثورة ضد حسني مبارك وحده، وإنما كانت ضد النظام الذي أتى بحسني مبارك، ومكنه ومن حكم المصريين ثلاثين عاماً حكماً مطلقاً، ثورة على انقلاب يوليو عام 1952، تضع حداً له وتسقط نظامه المهزوم الفاسد، هذه حقيقة يجب أن نسلم بها وأساس يجب أن نبدأ منه. وعندي، العبرة في كل ذلك، ما حدث في مصر وما ينتظم المنطقة من هزات ارتدادية جراء الزلزال المصري، هي أن السكون الذي يخيم على حركة الشعوب وإن دام قروناً ودهوراً متواليات بفعل القمع والقهر والإفقار، لابد له من نهاية، وإن من يقولون هنا أو هناك بأننا «شيء مختلف»،لا يفعلون سوى محاولة بائسة لتطمين أنفسهم ب«دوام الحال الذي هو من المحال»، وبرغم كثرة العبر ونمازجها الطازجة التي بين يديهم، فما أقل الاعتبار، لدى هؤلاء، الامر الذي يثير الدهشة والحيرة ويدعو للاستغراب!!.