حظرت الأنظمة «العلمانية»، التي سقطت على يد الثورات الشعبية، أيِّ نشاط سياسي معلن للحركات الإسلامية، بحجة أنها «دينية».. فحظرت مصر تنظيم «الإخوان المسلمون» وحظرت تونس حركة النهضة «الإسلامية»، وفعلت ليبيا الشيء نفسه، وذلك في إطار استبداد تلك الأنظمة بجانب فسادها، مع أنها حركة معتدلة، حرمتها تلك الأنظمة الحق الديمقراطي في الممارسة السياسية، وهي حركات تدين هي نفسها العنف في العمل السياسي.. فقد أدانت حركة النهضة بتونس اغتيال كاهن بولندي بأيدي متطرفين أو متشددين مؤخراً بعد الثورة. والآن بعد تلك التغيرات برزت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون لتؤكد أن الإدارة الأمريكية لن تعارض وصول جماعة «الإخوان المسلمون» للسلطة في مصر ما دامت تنبذ العنف وتلتزم بالديمقراطية وحقوق كل أبناء المجتمع، «وهو ما تلتزم به هذه الحركات الإسلامية قبلاً».. كما أوردت رويترز عن أحد قياديي «الإخوان المسلمون» في مصر أنهم تلقوا دعوات للحوار من عدة دول أوروبية! «آخر لحظة 25 فبراير 2011». لقد كان الخياران السابقان للولايات المتحدة وأوربا: إما التعامل المساند للأنظمة المستبدة الفاسدة، وإما الاعتراف بالحركات الإسلامية المعتدلة، والأخير كان مرفوضاً غربياً.. فتحول الآن الخياران أمام الغرب تحولاً جذرياً، فصار حصرياً: إما التعامل مع الحركات الإسلامية المعتدلة وإما التعامل مع الحركات الإسلامية المتشددة، فاختارت الأولى أمام المتغيرات الضاغطة في الشرق الأوسط.. فوصلت هذه الأوضاع الملتهبة إلى نقطة حاسمة تتعارض فيها المصالح الإسرائيلية مع المصالح الغربية، فإن موالاة إسرائيل هي السبب الخفي وراء سقوط تلك الأنظمة من خلال الثورات الشعبية، بل إن إسرائيل باتت تشكل تهديداً حقيقياً للسلام في المنطقة وفي العالم جميعه. وعلى واضعي الإستراتيجيات وصُناع القرارات في الغرب أن يدركوا أن هذه المتغيرات التي تجري في الشرق الأوسط لا تحركها قوى متشددة بقدر ما تتولاها الشعوب، التي هي بطبيعتها معتدلة التصور الإسلامي. فقد عاشت شعوب المنطقة طويلاً بين رحى السياسات الغربية المساندة لإسرائيل بغير وجه حق، وبين رحى القوى المتشددة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة.. فكان لابد من مخرج من هذه المواجهة بين الغرب والحركات المتشددة، فقيَّض الله تعالى هذه الثورات الشعبية لتغيير الأوضاع في اتجاه آخر، يستبعد كلا الفعل الغربي «المتشدد لمصلحة إسرائيل»، ورد الفعل الموازي له من الحركات الإسلامية المتشددة.. فأخرجت هذه الثورات السياسات الغربية والحركات المتشددة من معادلة التغيير.. فصار على الغرب أن يعتدل هو الآخر، فينحو إلى الحل العادل لمشكلة الشرق الأوسط الذي يقوم على قرارات الشرعية الدولية المتقادمة، فيساعد هذه الثورات على مزيد من الاعتدال.. الاعتدال صار الموقف، وهو جوهر الإسلام. وهذه الثورات بعد أن تسفر عن أغلبية إسلامية أو قوى إسلامية مؤثرة، في مقبل العملية الانتخابية، أمامها تجربتان حديثتان للتطبيق الإسلامي المعتدل: هما التجربة التركية والتجربة السودانية.. أما الأولى فهي في أصلها إسلامية، ولكنها تنحو إلى التطبيق المعتدل بعد علمانية طويلة راسخة، وأما الثانية فهي تنحو إلى الاعتدال بحكم خلفية شعبها المعتدل.. ومن مظاهر هذا الاعتدال: (1) التحول الديمقراطي بكل مستحقاته بعد مرحلة الشرعية الثورية ب«المصطلح الشيوعي أو اليساري» التي لم تدم طويلاً. (2) المحافظة على المساواة في حقوق المواطنة، وعلى العدالة في قسمة الثروة والسلطة من خلال نظام اتحادي وحلول سلمية للنزاعات المسلحة. (3) توسيع الحريات الدينية عن ميراث متجذر في التسامح الديني للمجتمع، ومن ذلك الاعتراف بالتعدد الديني، على الرغم من أن غير المسلمين يشكلون أقلية صغيرة، بعد انفصال الجنوب، ومن ذلك كذلك ضمان الحرية السياسية للحزب الشيوعي، مع أخذه بالعلمانية ربما المتطرفة. (4) توفير حقوق المرأة في المشاركة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية «اشتراط 25% كحد أدنى في المجالس التشريعية». (5) الأخذ بسياسة التحرير الاقتصادي غير المحتكر، والاستثمارات الخارجية غير المسيَّسة، مما كان له آثاره في استخراج البترول، وتأسيس البنية التحتية للنهضة الزراعية والصناعية والتعدينية والطاقوية «سد مروي كمصدر للطاقة الكهربائية»، وربط مساحات البلاد الشاسعة بالطرق والجسور. ومن يدري فلعل هذه الأنظمة الإسلامية المعتدلة المقبلة، التي سبق إليها السودان بعقد من الزمان، أن تكون إرهاصاً لمجيء الإسلام الذي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.. والله المستعان