رأيتها عبر الشاشات البلورية والسودان يفتخر بها وهي تتصدر قوائم الشرف الاأولى في الشهادة السودانية، وسعدت كثيراً وأنا أحظى بمقابلتها والجلوس اليها داخل سيارتي، وتابعت حديثها مع احدى صديقاتها عن كثب ففرض علي هدوئها، اتزانها، جمال شخصيتها، ولغتها أن أبحر داخل جزء مهم من حياتها، وهو طفولتها والذي يحسبه أهل التربية يشكل أكثر من 70% من شخصية الفرد.. حدثتني قائلة ومبتدرة حديثها بالحمدلله والصلاة والسلام علي رسول الله فقالت: ولدت بمنطقة الفكي هاشم شمال بحري في منزل العائلة الكبيرة، حيث يقطن اخواني وخالاتي، يقع المنزل بالقرب من السوق الكبير وجنينة الفكي هاشم، كان الأطفال في المنزل في سني كثيرون نجتمع كل صباح لتناول شاي الصباح ذو النكهة الخاصة عند (يمة سكينة)، ثم نذهب للسوق لشراء مستلزمات البيت لنفرغ بعد ذلك للعب واللهو في ديوان (يابا ابراهيم)، منذ أن نصبح الى أن نمسي لا نمل من اللعب والجري. عزيزي القاري إذا تأملنا الوصف البسيط لهذا الجزء من الطفولة، لم أجد اي نتيجة أخلص اليها غير أن ريان لابد لها أن تكون متفوقة وذلك للآتي: 1. نشأتها في البيئة الثرية بالخضرة والجمال الفكي هاشم، مظهر طبيعي للأمن النفسي الذي يتضح على معالم شخصية ريان، وبالطبع هذه البيئة الثرية اثرت بوضوح في ثراء الوصلات العصبية وسمكها ومتانتها لدى ريان فكان تفوقها. 2. وجودها بين الجدة والخالات أمن نفسي حقيقي من نوع آخر أهم وأخطر إن الجدة تقوم بتربية ابنة ابنتها بذكاء مؤكدة على نقاط القوة الأولى في تربيتها لابنتها ومتجنبة تماماً نقاط الضعف في تربيتها الأولى لابنتها، فتكون الحصيلة محصلة تربوية قوية وحزمة من القيم، المفاهيم، السلوكيات، الخبرات والتجارب التربوية المتراكمة، وقيل زمان (أحلى من الجنا جنا الجنا)، لأنك تثبت نجاح التجربة التربوية فيه وتستمتع وتعيد ذكريات التربية الأولى معها. 3. ذهاب الطفلة للسوق والشراء في سن مبكرة يتيح لها القدرة على التعامل بالنقود، ومعرفة الأوزان وأسماء الخضروات والفواكه والحبوب والصالح والطالح منها، وهذا ما يصفه علماء التربية بالخبرة المباشرة للتعلم، ولكم عانى طلابنا من جمود المنهج في شرح الاوزان، والقياس مع الرياضيات ومفاهيم العدد، فقد غاب عن الكثير منا أهمية ذلك فسجلناهم في مدارس وطابع مدرسي تحت مسمى رياض أطفال، متجاهلين حاجاتهم وخصائصهم النمائية، وها هي ريان تتلقى منهج تعلم ذاتي متقدم في طفولتها، أتى أكله ثماراً طيبة من التنمية الحقيقية لقدراتها العقلية.4. أحسب أن ريان تتحدث عن الأمن التربوي عندما تحدثت عن أن الأطفال في مثل عمرها كثر في المنطقة، فيصف علماء التربية بأن طريقة نقل المفاهيم من طفل لطفل أحدث طريقة في التعلم، اطلاق العنان لهما للعب في الديوان حيث المكان الفسيح ينمي ذكاء مكاني بصري، وهذا والله أعلم قد يكون أقوى الأسباب في تنمية قدرات ريان نحو الهندسة إذ إن الهندسة تهتم بالأبعاد والمسافات.ودعوتها تواصل حديثها عن طفولتها فقالت اختم يومي بعد اللعب مع الجدة العزيزة سكينة وهي تحكي فاطنة السمحة، ود النمير وغيرها من القصص التراثية، هكذا كانت ملامح طفولتي المبكرة، تدرجت في الصفوف الدراسية ودائماً عندما أُسأل عن مستقبلي كنت أقول عايزة أبقي مهندسة رغم إنني لم أعرف عن الهندسة شيئاً، كانت الرياضيات والعلوم أحب المواد الى نفسي وأكثرها وقعاً في ذهني. وبهذه العبارات التي كتبتها لي ريان تمنيت أن أصرخ لتسمعني كل معلمات رياض الأطفال والمسئولين عن الطفولة الذين ساهموا بأن يستمتع الطفل بطفولته معنا حتي تكون المادة العلمية في الكبر وقعاً الى نفسه في الكبر، دربوا أنفسكم على ايصال المفهوم العلمي لديه وهو يلعب، وتمنيت أن يستمع لندائي كل الآباء والأمهات ابتعدوا عن الواجب المدرسي وصحبه في رياض الأطفال وعودوا الى الحجوة والقصة الهادفة والبناءة لطفلكم، وسعوا من خياله ومداركه بآمالكم وطموحاتكم وتطلعاتكم، ولا تتركوهم الى الآكشن يفعل في دواخلهم ما يفعل، فنعجز داخل مدارسنا في معالجة العنف والعدوان، ولا تتركوهم في مضيعة من أمرهم أمام العاب الاتاري والبلي اشتيشن التي أثبتت مقدرتها على اللعب بقدرات وتوازن وتركيز الطفل العقلي.. وهذه دعوة للأمن النفسي والتربوي وضغوط الحياة التي تكالبت على مجتمعاتنا المدنية، وأصبح الطفل لا يرى حتى جدته ناهيك عن والديه، لأنها أصبحت عاملة ومديرة ومسئولة فهنيئاً لك ياريان بطفولة ريانة بالحب والأمان.فبادرتها بسؤال جرئ ما هي الأسباب النفسية التي هيأت لك النجاح ياريان؟ فكانت اجابتها على قدر نبوغها، التحقت منذ سنتين تقريباً بخلوة الفكي هاشم، فلا شك إن لتلاوة القرآن وحفظه أثر كبير في الراحة النفسية، ومن هنا فإني ادعو جميع الطلاب الى الاهتمام بحفظ القرآن، وبجانب ذلك تحديد الأهداف والسعي لتحقيقها كان له دور في هذا النجاح، فمثلاً كنت أكتب النسبة التي أريد تحقيقها في دفاتري وجدول المذاكرة، وبجانبها عبارات تشجيعية، حتي إذا أصابني اليأس وكلت عزيمتي أرجع إليها كمزود للطاقة، ومن الأسباب التي استطيع بها القضاء على الملل تفريغ أسباب الذاكرة وحل مسائل اتحدى بها نفسي فتذوق طعم النصر. وإذا حاولت تحليل هذه الكلمات أحسب أن ريان أهدت استراتيجيات متقدمة في التفوق والنجاح لا جدال فيها، فالأولى أنها انتسبت الى خلاوي القرآن، حيث صفاء الروح بالتلاوة الصحيحة للقرآن ونطقه السليم، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، ومن ثم مجالسة شيوخ القرآن، حيث التربية الأصيلة في الاحترام والنموذج في الفعل والقول، وبالأمس القريب حظيت بأحد رياض الاطفال في ضيافة أحد العارفين والمحبين لله، وهم معه في بيت من بيوت الله يتبادلون آيات القرآن والأحاديث والأدعية، والكل في هيبة الموقف احتراماً وتجلة، وهل هذه النفحات الإيمانية موجودة في أروقتنا التربوية، وهل ربينا عليها أطفالنا الآن أم أصبحت العلاقة ندية جوفاء خالية من الاحترام والهيبة للعملية التعليمية برمتها، فقد قيل إذا رأيت الشاب انحرف في صباه فانظر الى طفولته، فأين وكيف ومتي نربي ذكاء روحياً في أطفالنا؟ مدخل علمي جديد تبحثه النظريات العلمية الآن.ومن ناحية أخرى تحدثت عن جودة العملية التعليمية، وهي أولاً وضع الأهداف، وتحديد استراتيجيتها لتحقيق الأهداف، وتلك هبة ربانية تتضح بجلاء في قدرتها على تنظيم أفكارها وسلالة وتنظيم المحتوى، وذكرني حديثها بلقاء قمت به مع المرحوم الدكتور طه بعشر نشر بمجلة عزة السودانية1992 تحت عنوان طه بعشر عبقرية سودانية، فأحسب أن العلاقة فرضت نفسها على بدء من الشكل الخارجي فكلاهما بزته المفضلة الزرقاء، مروراً بترتيب الأفكار وعزيمة تحقيق الهدف، وتطرقت الى أهمية التحفيز الذاتي ووضع استراتيجية خاصة للمحافظة على تحفيزها الذاتي.عرجت ريان الى مكون مهم في النجاح فقالت لا أستطيع أن أنكر دور المدرسة في التحفيز المعنوي ورفع مستوى المنافسة بين الطالبات وغيرها من الأساليب المنتهجة في هذ المجال. وهذه المرة طمعت أن أعرف ما بداخل ريان للمستقبل، فسألتها ماذا تعني كلمة باشمهندس لك؟ فبادرتني قائلة: كثير من الناس يربطون مفهوم المجال الذي يختاره الطالب بسوق العمل (ما يدر مالاً يعتبر جاذباً)، لكني لم أدخل الهندسة إلا عن رغبة وحب لنيل أكبر قدر ممكن من العلوم، والتي اعتمد عليها الغرب في التطور والتقدم، فالعلم هو الجسر الوحيد الذي يمكننا من التفوق عليهم، وبما أن العلم بحر لا ساحل له فليس من السهل أن نحصل على لقب باشمهندس وأنت مقتنع بكفاءتك وقدرتك على نيله.. بهذه الكلمات أحسب أنه لم يبقَ أمامي لريان إلا أن أدعو العلي القدير أن يهبها قوة ونصراً مؤزراً من عنده، شاكرة لها هذه المساحة من وقتها وسط زحمة المحاضرات وعناء السفر بعد عودتها من الرحلة العلمية من كوريا، متطلعة الى أن نبحر بعمق داخل المتفوقين في مسيرتهم ليكونوا نبراساً لآخرين. دكتورة