تلقيت في الأيام القريبة الفائتة دعوة كريمة من حركة جيش تحرير السودان القيادة العامة التي يقودها الرمز الوطني الشاهق والثائر العقلاني الآثر الأستاذ علي آدم شوقار، وقد نقل لي الدعوة الأستاذ محمود أحمد داؤود الناشط في قضايا السلام والمهموم دوماً بفعالياتها. التأم شمل الذين لبوا الدعوة في قاعة (كزام) بالحديقة الدولية.. وجوه سمراء وارفة كالصيف في بلادي، وأخرى كالطيف والندى الذي يبلل مياسم الزنبق واوراق الياسمين. بدأ الحفل برقصات تراثية وانغام صدحت بها حناجر الذهب فتداخلت الأنغام والألوان وجيل السلام فتشكلت لوحة للأمان المستدام. بعدها تحدث المتحدثون.. كلمات شاهقات.. شامخات كاسحات كخيول الريح التي تركض نحو الممكن الذي تستصعبه الفصائل الدارفورية الأخرى، بعد ذلك جاء دور الفارس الاسمر الوشاح الشاهق القامة كفرسان عد الفرسان الأستاذ القانوني الضليع علي آدم شوقار، وتحدث حديث العقل للعقل، وكان الحديث قريباً من حديث القلب للقلب، وليس كل ذلك، فحديث العقل ينفذ مشوباً بالحكمة الى القلب، أما حديث القلب للقلب فيخضع للعاطفة الإنسانية التي تجنح أحياناً الى مداهنة الحقيقة والقفز عليها دون المثول أمام الإستماع لمرافعة الواقع. تحدث الأستاذ شوقار عن المقاربات العقلانية مع الحكومة، تلك المقاربات التي دعته- بكل صدق واخلاص للوطن- والقضية الدارفورية الى التوقيع مع الحكومة على الاتفاق التاريخي الذي جاء بقناعة الطرفين في أن الحرب لا يجني منها أهل دارفور سوى الخراب والدمار، ولا شيء غير ذلك، وقال الأستاذ شوقار إنه وبالحزن كله قد عايش سبع سنوات عجاف استصحبت معها هوائل كارثية قضت على الأخضر واليابس، وبثت الرعب والخوف في النفوس، فنزح من نزح وتشرد من تشرد، واحترقت الأكباد، وجف الزرع والضرع، وماتت الإنسانية في الإنسان، وتحول المتصارعون الى وحوش كاسرة.قال الأستاذ شوقار من أجل اطفاء هذا الحريق الكبير كان لابد لنا من الاستجابة لصوت العقل وليس البندقية، ففي الصوت الأول تزدهر الحياة، وفي الثاني تموت الحياة، وازاء ذلك جاءت قوة الدفع لخوض حوارات جادة مع الحكومة، بهدف التوصل الى تسوية سلمية تحمل في طياتها عدالة القسمة في الثروة والسلطة.. ورغم ما اعتور تلك الحوارات من مماحكات إلا أن الخط العام للحكومة انبأ عن استعدادها لمراجعة المطلوبات الأساسية لأهل دارفور، كما أن أهم ماطرأ على الذهنية الحاكمة أن الحكومة اعترفت تماماً.. تماماً بعدالة القضية الدارفورية، وهذا الفهم وهذا التوجه قادنا الى مساحات أخرى في التفاوض في مسارات أخرى يمكن أن تصب في معين الحل النهائي للأزمة الدارفورية، ولعل أميز ما ذكره الأستاذ شوقار هو أن الاستراتيجية التي تعتمدها الحركة الآن هي التوجه للسلام من الداخل وبإرادة سودانية خالصة، ومن ثم فإن حركة جيش تحرير السودان القيادة العامة، قد قررت وقف اطلاق النار، وكافة العمليات العسكرية، وذلك اثباتاً لحسن النوايا تجاه التنفيد الفوري لإتفاق الشجعان الذي تم بين الحركة والحكومة، ومن ثم دعا الأستاذ شوقار الحكومة أن تصدقهم القول والنوايا الحسنة تجاه الإنسان الدارفوري بتجفيف معاناة النازحين والعمل بمعدلات واسعة في إعادة البناء والتعمير وتحقيق الاستقرار، وتوفير الثقة كما دعا قادة الفصائل المسلحة إلى ضرورة اللحاق بركب السلام حتى يعم السلام في وطن السلام، ولعل الجدير بالذكر إشارته الدالة على تمتعه بحس وطني خالص، أنه قال إن الحركة لم توقع على الاتفاق بحثاً عن الوظائف والمكاسب الشخصية البحتة، وإنما كان التوقيع من أجل المبدأ العام لقسمة الثروة والسلطة، بما يمكن من توسيع القاعدة العدلية لذلك.. حتى ينعم أهل دارفور جميعاً بهذه القسمة ولا تخص أحداً أو فصيل دون الآخر، ويتمثل ذلك في عدد من المرتكزات الأساسية، وهي تحقيق الأمن وبسط هيبة الدولة، وإعمار ماخربته الحرب والسعي الحثيث لتقديم التعويضات الجماعية والفردية، والاستمرار في الحوار بعقل مفتوح وقلب سليم، حتى لا يؤدي الحوار الى طريق مسدود، وعندها يصبح الحوار كحوار الطرشان لا يستمع فيه أحد لاحد.فيما تقدم ياسادتي كان مجمل ما قاله وذكره الأستاذ علي آدم شوقار في ذلك اللقاء الحاشد بقاعة (كزام) بالحديقة الدولية، حيث التقى بأهله وعشيرته ورموز أخر من الطيف السياسي العام، الى جانب عدد من الناشطين في مجال السلام، ولعل الأستاذ محمود أحمد داؤود الناشط الكبير في قضايا السلام كان له الفضل في حشد نشطاء السلام، وكذلك عدد من الإعلاميين والصحفيين الذين يعملون معه كفريق محترف ولعلني هنا ادعو حركة جيش تحرير السودان القيادة العامة بقيادة الأستاذ علي آدم شوقار الى توسيع قاعدة مفاهيم الحركة في أوساط الشباب بصفة عامة، والشباب في الجامعات والمعاهد العليا وكافة أفراد الأمة حتى تترسخ هذه المفاهيم في الذهنية الجماهيرية، ومن ثم يأتي دور الصحافة والإعلام لتوصيل هذه الرسالة الوطنية المقدرة، خاصة وأن البلاد تعيش هذه الأيام في ظل مراوحات حادة بين الحكومة والمعارضة، ومن ثم يمكن أن تنفلت هذه المراوحات الحادة، ويحدث ما لايحمد عقباه مثلما يحدث الآن في الشقيقة ليبيا واليمن، ومثلما حدث من قبل في تونس ومصر ولعل خطر (الفيس بوك) مازال ماثلاً. وحتى لاينفتق الجرح من جديد، كان لابد من عودة الأمل والابتسام الى الشفاه التي أيبستها المسغبة والى العيون التي شرقت بالدموع، والى القلوب والخواطر التي حطمها الانتظار علي أرصفة الضراعة لنوال السلام والأمان ومن ثم ينبغي أن يرتفع سقف المسؤولية الوطنية تجاه هموم الوطن، وأن تترك الفصائل المسلحة الحديث عبر فوهة البندقية، والانخراط فوراً في العملية السلمية، ليسلم الجميع من جائحات الشرذمة والتمزف، وأن يعود الجميع الى الوطن حتى يكبر الوطن في عقولنا وفي قلوبنا، ويشع نور السلام في وطن السلام وتعود (التقابات) الى فضاءات الضياء وتشتعل نار القرآن في كل مكان لتنطفئ نار الحرب في البلاد، وتخضر أرض دارفور من جديد، وتعود عصافير الخريف تملأ الوديان شدواً وطرباً يعانق أغاني الحكامات في الأمسيات الساهرات مع ضوء النجيمات البعيدة وتمتد أفراح الكبار في السمر ويرضع الأطفال من حليب القمر، وبذلك تعود دارفور الى حضن السلام، وتعود الزهرة الشاردة من حدائق الزيتون.. تعود الى حضن السلام في وطن السلام.