جاء إلى لندن الأخ الإداري القدير العبيد إبراهيم وكان حينها يعمل في سفارة السودان بالقاهرة، تصحبه كريمته بغرض علاجها من متاعب في الغدد الكظرية في الكّلى.. وهي غدد تساعد في نمو جسم الإنسان، ولهذا كانت بنته تعاني قصر الجسد وتوقف في النمو مع مرض السكري، ولهذا كانت نصيحة الطبيب المعالج في مصر هو السفر بها إلى بريطانيا وهو اللواء طبيب محمد حامد المستشار في طب الأطفال، وكان يوماً قائداً لمستشفى المعادي العسكري- له الرحمة والمغفرة- ونصح هذا الطبيب الأخ العبيد أن يذهب بابنته إلى قلاسقو في شمال بريطانيا لمقابلة طبيب معين في تقديره هو المناسب لعلاج حالة هذه البنت، ولمعرفته اللصيقة بذلك الطبيب البريطاني.. عندما وصل الأخ العبيد وابنته إلى لندن تشرفت باستضافتهما في داري وكان الفصل شتاءً، والبرد قارس في لندن، وفي فلاسقو وطأته أشد بسبب نزول الجليد فيها أكثر من لندن، ولهذا كان اقتراحي للأخ العبيد أن نبحث عن طبيب مناسب في لندن، ففي البقاء في لندن للعلاج يتوفر له السكن والترحيل بعربة السفارة، وربما إذا احتاج إلى ترجمة من العربية إلى الإنجليزية وبالعكس، فقد يعاني بمفرده مع كريمته في فلاسقو في السكن و البرد والغذاء والترحيل والترجمة فراقت الفكرة للأخ العبيد وقبلها فاتصلنا بالدكتور ليبمان، وهو المستشار الطبي للسفارة ليرشدنا إلى طبيب مناسب في علاج هذه الحالة، وتفضل مشكوراً بذلك، وهيأ لنا موعداً مع ذلك الطبيب المستشار في أمراض الكُلى. ذهبنا في الموعد المحدد، وقابلنا ذلك الطبيب الذي اطلع على التقارير الطبية التي كتبها الطبيب المصري عن حالتها وبعد تفكير في صمت إذا بذلك الطبيب يقول لنا إنه للأسف ليس بالطبيب المناسب لعلاج هذه البنت فمرضها ليس في دائرة تخصصه- ويردف قائلاً إن حالتها هذه تجيء في دائرة اختصاص البروفيسور جونسون في مستشفى القرية ميري ولكنه حسب حديثه، طبيب مشغول جداً وتوفير موعد معه في غاية الصعوبة.. ويقول لنا إذا رغبتم فسأطلب منه تحديد موعد لمعاينة هذه الحالة، فوافقنا بالطبع فالأطباء في بريطانيا يقدرون ويحترمون بعضهم البعض.. وطلب ذلك الطبيب من سكرتيرته أن تطلب البروفيسور جونسون بالهاتف وهذا ما حدث، فتحدث إليه وشرح له حالة المريضة ورأيه أنه هو الطبيب المناسب لعلاج حالتها.. وطلب منه أن يتكرم بتحديد موعد لها لمقابلته فاقترح الرابعة من عصر اليوم التالي ووافقنا على الموعد- لا خيار- وعندما خرجنا من مكتب ذلك الطبيب إذا بالسكرتيرة تعيد لنا مبلغ الستين جنيهاً استرلينياً الذي دفعناه رسوماً لمقابلة الطبيب كما هي الحال، فاستلمت منها المبلغ ودخلت عليه ثانية وقلت له هذا رسم الكشف.. فقال الطبيب ولكني لم أكشف عليها، بل اطلعت على التقرير.. فقلت له وهذا من وقتك، وبقينا معك فترة ثم إنك اتصلت بالبروفيسور جونسون من هاتفك الخاص، وبعد حديثي هذا قال الطبيب كل ذلك لا يبرر أن آخذ منكم رسماً- غاية في الصدق والأمانة ولم يرد أن يأكل مالنا بالباطل.. بينما في تقديري أنه كان مستحقاً للرسم. قابلنا في الساعة الرابعة من عصر اليوم التالي البروفيسور جونسون في مستشفى القرية ميري، وباشر وأشرف على علاجها، وطلب من طبيب آخر متخصص في الجراحة العامة أن يجري لها عملية استئصال الغدة الدرقية، عموماً تحسنت حالة البنت وصارت أفضل من حالتها عندما وصلت من القاهرة، ولكن لسوء حظها فحالتها مستعصية ولا علاج ناجع لها. وعاد الأخ عبيد وكريمته إلى القاهرة وقابل اللواء محمد حامد الذي اطلع على التقرير الذي أعده البروفيسور جونسون ولكنه لم يكن راضياً وقال للأخ عبيد لقد طلبت منك أن تذهب إلى فلاسقو للطبيب الفلاني وأنا لا أعرف هذا الطبيب البروفيسور.. ويبدو أن حديث الطبيب ألقى بظلال في نفس الأخ العبيد.. فهو الذي تم نصحه لمقابلة الطبيب الفلاني ولكنا في السفارة عرضنا ابنته على آخر، وظهر ذلك عندما اتصل بي هاتفياً ونقل لي ما دار من حديث بينه والدكتور اللواء محمد حامد مما جعلني أشعر في نفسي بشيء من اللوم بتغيير الطبيب بآخر في لندن.. ولكن المعطيات كانت تحتم ذلك.. وصلتي الشخصية بالأخ عبيد أجبرتني ألا أدعه يذهب بمفرده إلى فلاسقو.. ومن هذا الإحساس اتصلت بالبروفيسور جونسون وقلت له إن السفارة السودانية تحتفظ بملفات لجميع المتعاملين معها وخاصة الأطباء.. ولهذا فهي تطلب أن يتكرم بارسال سيرته الذاتية إليها لتفتح له ملفاً ولتكون على صلة معه مودة وصداقة وتعاوناً في المجال الطبي، فاستجاب الطبيب جونسون، وارسل لي عبر الفاكس سيرته الذاتية وظهر فيها أن عمره في ذلك الوقت ستة وأربعون عاماً، وله ست وأربعون دراسة، وأوراق عمل، وكتب، ومقالات في دوريات متخصصة، ورئاسة مجمعات طبية، وجامعات يتعاون معها بصفة بروفيسور زائر في بريطانيا وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية وأخريات في دول أوربا، فكان بذلك من نوابغ الأطباء في مجال تخصصه.. وما كان مني إلا وأرسلت تلك السيرة الذاتية لبروفيسور جونسون للأخ العبيد إبراهيم في القاهرة وطلبت منه عرضها على الطبيب محمد حامد ليطمئن قلبه، وفعلاً قام الأخ عبيد بعرضها عليه فذهل الطبيب، وأيقن أن السفارة عرضت البنت على طبيب مقتدر وأنا شخصياً شعرت براحة نفسية عندما اطلعت على السيرة الذاتية للبروفيسور جونسون- كفاءة وتميزاً في سن مبكرة- ستة وأربعون عاماً. شعوري بالراحة النفسية راجع إلى أنني لم أكن ميالاً إلى تغيير طبيب جاء المريض يحمل اسمه أو نصحه المعالج بمقابلته، لأن في ذلك مخاطر.. فإذا غيرنا الطبيب بآخر وحدثت انتكاسة للمريض.. فإنه يقول بأنه جاء لمقابلة الطبيب الفلاني بتوصية من طبيبه المعالج في السودان ولكن تم تغييره بآخر، وهنا تكمن الخطورة.. وكنت ميالاً إلى عرض المرضى السودانيين على الأطباء (الإنجليز).التجارب كثيرة ولكن نكتفي بهذه الأمثلة التي تسلط الضوء على القيم والمثل في بلاد الإنجليز.. وكيف يقدرون ويحترمون الإنسان، والقانون فيها لا يسمح بدفن مريض أجريت له عملية جراحية كبرى وتوفي في خلال الأسابيع الثلاثة للعملية إلا بعد إجراء تشريح بلجنة طبية محايدة لتأكيد أن الطبيب الذي أجرى العملية اتبع الخطوات العملية الجراحية، ولولا الحياء لكتبت عن تجرتبي الشخصية.