ما يدعونا للاعتقاد بأن الإقليم مأزق تاريخي هو التجربة الماثلة اليوم ، ذلك لأن الوضع الحالي المأزوم في دارفور من شتات الرأي وحمام الدم وفقدان الثقة في الآخر ما هو إلا حصاد الهشيم لتجربة الحكم الإقليمي الذي بدأ تطبيقه في السودان في أوائل الثمانينات . فقد أدي الصراع المحموم على السلطة في إقليم دارفور إلي تشطير المجتمع الدارفوري إلى قبائل كبرى تتصارع على السلطة بإنشاء تحالفات فيما بينها ، وأقليات أبدت مخاوفها من اعتماد القبيلة كأساس لتسنم السلطة بدلاً عن الكفاءة والخبرة . وفي يقيني أن مخاوف هذه المجموعات الصغيرة لم تبدد إلى يومنا هذا . وأن القبائل الكبرى قد زادت من وتيرة الصراع والتنافس المحموم على المناصب بل حددث آليات الصراع في انتظار الإشارة بمجئ الإقليم . ويخشى أن يتكرر نفس السيناريو الذي أدى إلى تأجيج الصراع القبلي في دارفور في عقد التسعينيات، والذي حصد أرواح الآلاف من أبنائها، وظهور تحالفات قبلية(زرقة) و(عرب) بسبب التمرد، واتهام بعض الكيانات بالتخطيط لابتلاع الآخرين تحت مسميات يعرفها الشارع الدارفوري - بغض النظر عن كونها حقيقة أم محض خيال - فتدور دائرة الحرب والدمار من جديد ، وفي التاريخ عبرة لمن أعتبر.فضلا عن هذا ، أن القبول بفكرة الإقليم يثير مخاوف الكثيرين من أبناء دارفور من احتمال بروز أصوات تنادي مستقبلاً بحق تقرير مصير إقليم دارفور في ظل المناخ الدولي المعادي والتصريحات المعلنة من بعض الدوائر الطامعة في استنزاف موارد دارفور النفطية ومعادنها النفيسة ومياهها الجوفية الوفيرة في الحوض النوبي وحوض البقارة ، لا أحد يضمن عدم إثارة موضوع حق تقرير مصير دارفور في حالة الإقرار بالإقليم لتتحرك ذات الدوائر التي نجحت في فصل الجنوب عبر الاستفتاء المخدوم لتولي مهمة فصل دارفور بنفس الآليات التي حققت بها النجاح ، ليس لوضع اليد على موارد دارفور الغنية فحسب ، بل لإضعاف دولة السودان المتبقية وتمزيقها . إن وضوح هذه الرؤية هو ما دعا المجموعة الوطنية لتصحيح مسار قضية دارفور ، ورئيس حركة تحرير السودان القيادة العامة وكذلك رئيس حركة تحرير دارفور قيادة الوحدة ومن قبلهم قيادات بارزة مثل د. فاروق أحمد آدم ومولانا إبراهيم يحي لترجيح خيار العودة إلى الوطن لمواصلة الحوار من الداخل . وأحسب أن الكثيرين من أبناء دارفور الذين يطالبون بالإقليم بنوايا صادقة لم يدركوا أن عهد النوايا الحسنة في السياسة الدولية قد ولي ، خاصة فيما يتعلق بقضية دارفور ، إذ أن نفس الاستهداف الخارجي ينتظر لحظة ميلاد هذا الإقليم الوليد ليعمل على فصله عن بقية أجزاء السودان بصورة درامية يحقق من خلاله إستراتيجيته في المنطقة.ولهذا فإن السؤال الذي يجب أن يطرح في نظري ليس هل يريد أهل دارفور إقليماً أم زيادة عدد الولايات ولكن هل يريدون أن يكونوا جزءاً من السودان كما هم الآن أم يكونوا في دولة منفصلة مثلما حدث لجنوب السودان. كما أن التجربة السابقة للسلطة الإقليمية الانتقالية لدارفور زادت مخاوف الكثيرين من احتمال فشل الإقليم بنفس الأسباب التي أدت إلى فشل السلطة الانتقالية لدارفور بالاختلاف والتناحر بين قياداتها ، الأمر الذي حال دون تقديم خدمات تنمية ملموسة لإنسان دارفور المغلوب على أمره .لأن قضية دارفور في جذورها قضية غبن سياسي وتخلف تنموي واجتماعي ، فإن الموارد التي ستصرف كأجور للعاملين ، ومرتبات الدستوريين ، وتغطية نفقات علاج أسرهم في الخارج في حالة اعتماد الإقليم كمستوي سلطة ، ستكون خصماً على مشروعات التنمية في مجالات الصحة والتعليم والمياه والطرق والكباري ، علماً بأن المواطنين الذين حملوا السلاح في دارفور ابتداء لم يفعلوا ذلك من اجل المطالبة بإقليم لدارفور أو منصب نائب رئيس جمهورية وإنما بنصيبهم العادل من التنمية والمشاركة في السلطة .وما يعزز من فرص الإبقاء على الهيكل الإداري الحالي مع زيادة عدد الولايات أن دارفور لم تشهد هيكلاً إدارياً استثنائياً عن سائر أجزاء السودان طيلة العهد الاستعماري والعهود الوطنية ، فقد كانت إحدى مديريات السودان التسع ، وظلت إقليماً حينما كانت البلاد مقسمة إلى أقاليم . وعندما قسمت الأقاليم مثل كردفان والشرق إلى ولايات ، قسم هو الآخر إلى ثلاث ولايات.لذلك فإن الإبقاء على الولايات مع زيادة عددها يتسق مع الوضع الإداري السائد في سائر أنحاء السودان ولا يخلق هيكلاً شاذاً كما هو متوقع في حالة الإقليم . أما إذا ارتضى أهل السودان العودة إلى نظام الأقاليم بحيث تكون دارفور واحدة من أقاليم السودان كما كانت في السابق نكون حينئذ من أوائل المؤيدين للإقليم. أما إذا استقر الهيكل الإداري الحالي فإن مقترح زيادة عدد الولايات في دارفور يظل هو الأفضل في نظري لإنسان دارفور لأنه طالب بها في مؤتمر الأمن الشامل بنيالا 1997م ، ولأن هذا يتماشي مع فلسفة النظام الفدرالي القائم على تقريب السلطة للشعب ، وتقصير الظل الإداري . كما أنه يتيح فرصاً واسعة لمشاركة القوي السياسية المختلفة في اقتسام السلطة في الولايات الخمس بحكوماتها ومجالسها التشريعية وولاتها ، واستيعاب الكوادر الشبابية المدربة والطموحة من كل القوى السياسية في إدارة الشأن العام في دارفور مع الاستعانة بحكمة الشيوخ. ولأن هذا الاستفتاء مصيري ليس فقط لدارفور بل لكيان الدولة السودانية ووحدة أراضيها ، ينبغي إعطاء موضوع الاستفتاء ما يستحقه من الاهتمام وعدم التسرع فيه لضمان التحضير الجيد ، والسماح بالمراقبة الإقليمية والدولية حتى لا تثار الشكوك حول نتائج الاستفتاء فيخرج فصيل آخر على السلطة بحجة عدم الاعتراف بالنتيجة فنكون كالمُنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي. نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية المجلس الوطني